أما التصميم في الرأي فهو الذي يُفْشل المكابرين، ويركد ريح الحاسدين، والعاقبة بعدُ للمتقين. قال الله تعالى:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[آل عمران: ١٤٦]. لسنا نطالبه أن يعض بالنواجذ على رأيه وإن كان خطأ؛ لأن هذه صفةُ المكابرة التي نتبرأ منها، والمجاحدة التي جاء الدين لإزالتها من نفوس الناس، ولكنا نرغب أن لا يرجع إلَّا إلى العلماء الحقيقيين، متى أرجعوه بالدليل.
ولا عليه أن لا تتقبل الأمةُ نصحَه وعلمه؛ فييأس من غاية سعيه، ويستَأْيِس أن قد خاب أملُه، ويرى أن لَمْ تبقَ فائدةٌ في تذكير قومٍ كالأنعام أو هم أضل سبيلًا، فموافقتُهم أولَى من مخالفتهم. يتأول أن الله ما أمر بالمجاهرة بالحق إلا لتحصل الغاية منها؛ فإذ قد انعدمت الغاية، كان الواجب أن نسعى في مرضاة قومنا، فنحصل - في الأقل - على لذة المصافاة، هذا هو سوء التأويل. إنَّ الإنذار بالحق يقذف في قلوب المنذرين علمًا إن خالفوه أصيب هواهم بالمرار من النكد، أو شكًّا يكشفه لهم ريب الزمان.
وتكرُّرُ الإنذار إن لَم ينفث في قلوب المنذرين ما أُمل منهم لا يعدم أن يصدر عن ازدواجه نشءٌ ربما يطبق تكاثفه المترقب جوَّ العقول ويمطر من مزنه على أرض قلوبهم الميتة، وليذكر ما أوصى الله به رسوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}[الشورى: ٤٨]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}[البقرة: ٢٧٢]، وقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)} [الذاريات: ٥٥]، [وقوله]: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)} [الحجر: ٩٤، ٩٥]، [وقوله]: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧)} [الحجر: ٩٧].
نظرًا لهذا المعنى حين علم الله تعالى عسرَ تحول الناس عن إلْفِهِمْ، وانقلابهم عن جهلهم، وشدة استمساكهم بضلالهم، ما حقق لنا سبحانه حصولَ الغاية، وهو أعلم بالحال، ولكنه جعلها في موضع الرجاء لا في موضع اليقين، فقال:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.