للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ينقص من شجاعتنا على هدم هذا الأصل، أن يصادقَ عليه الشيخُ ابن خلدون والفخرُ ابن الخطيب رحمهما الله، (١) فإنا لا نعلم الأول إلا فيلسوفًا تاريخيًّا، ولا الثاني إلَّا رجلًا عالِمًا له سعةُ اطلاع على كلام الحكماء لم يخوِّله مرتبةَ الحكم اليقيني أو يكسبه صوتًا معهم. وما كان واحدٌ منهما بالفيلسوف الطبيعي، وإنما ذكرا ذلك الكلام في كتابيهما كما تُذكر الأصولُ الموضوعة في كتب العلوم. (٢)

ثم أضفتُ إلى ذلك أدلةً ما تصل إلى إيثار اليقين، ولكنها لا تقصر بعد اجتماعها عن أن تُكْسِبَ الحقَّ قوة.

١ - منها أن الأصل في الفلتات القلة. والفلتة وإن لم يضعوا لها حدًّا تقف عنده، إلَّا أنَّ اسمها وحده كافٍ في اعتبار قدرتها كمًّا وكيفًا، ولو كثرت لانقلبت عادة؛ إذ ليس أصلها من الأحكام العقلية التي لا يخرج الشاذُّ منها عن شذوذه ما بلغت به الكثرة. وظاهر القرآن والتاريخ يقتضي أن نوحًا - عليه السلام - عاش هذا الزمن وقومُه هم هم، وأنهم الذين عاقبهم الله تعالى بالطوفان. ومن الآيات التي تقتضي طبيعةُ سوقها ذلك قولُه تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ


(١) لعل المصنف يشير هنا إلى كلام الرازي خلال تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤]، حيث قال: "المسألة الثالثة: قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد مائة وعشرين سنة، والآية تدل على خلاف قولهم، والعقل يوافقها؛ فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته، وإلا لما بقي. ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن، إن كان واجب الوجود فظاهر، وإن كان غيره فله مؤثر، وينتهي إلى الواجب وهو دائم. فتأثيره يجوز أن يكون دائمًا، فإذن البقاءُ ممكن في ذاته، فإن لم يكن فلعارض، لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع، فظهر أن كلامَهم على خلاف العقل والنقل". الرازي: التفسير الكبير، ج ١٣/ ٢٥، ص ٣٨. وسنجلب كلامَ ابن خلدون بعد قليل عند إشارة المصنف إلى تعليله طول عمر نوح - عليه السلام -.
(٢) الأصول الموضوعة هي الأصول المسلمة أو المقبولة التي يتلقاها المرء أو يسلم بها ويبني عليها دون البرهنة عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>