للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما نحو السببين الثاني والثالث - وهما النسيان والغلط - فقد اشترط مالك رحمه الله في الرواية أن يكون الراوي من أهل العلم والمعرفة. قال ابن وهب: "ما كنا نأخذ الحديث إلا من فقهاء". (١) وشدد في نقل الحديث بالمعنى، فقال: "لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى"، (٢) نعم رخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.

وأما نحوُ السببين الرابع والخامس - وهما الترويج والتفاخر - فإن مالكًا رحمه الله أخذ الحيطة لذلك بأمرين: بتزييف ما كانوا يصنعون، والحذر مما يدعون. ففي المقام الأول لم يهتم بشيء من التصنع والتحسن في طرق الرواية، فكان يكرر ما يقوله لهم أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: "إذا أخذتُم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم". (٣) وقيل له: "إن فلانًا يحدثنا بغرائب، فقال (مالك): من الغريب نَفِرّ". (٤) وقال له بعضُهم: "ليس في كتابك حديثٌ غريب. فقال: سررتني". (٥)


= بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يُتهم أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضلٌ وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث". المرجع نفسه، ص ١٠٨ و ١٤٧. وانظر كذلك ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع السابع"، ج ١٨، ص ٢٤١.
(١) اليحصبي: ترتيب المدارك، ج ١، ص ١٢٥.
(٢) ذكر القاضي عياض أن مالكًا سئل "عن الأحاديث يُقدَّم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينبغي أن يقوله إلا كما جاء. وأما لفظ غيره فإذا كان المعنى واحدًا، فلا بأس به. قيل: فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مزادٌ فيه الواو والألف والمعنى واحد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا". ترتيب المدارك، ج ١، ص ١٤٨. وقد سبق الخطيب البغدادي عياضًا في رواية ذلك بسنده عن أشهب قال: "سألت مالكًا عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان منها من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أكره ذلك، وأكره أن يُزادَ فيها وينقص، وما كان من قول غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أرى بأسًا إذا كان العنى واحدًا". الكفاية في علم الرواية، ص ١٧١. وقارن بما جاء عن غير مالك في رواية الحديث بالمعنى: المرجع نفسه، ص ١٥٦ - ١٥٨، وص ١٨٤ - ١٩٠.
(٣) اليحصبي: ترتيب المدارك، ج ١، ص ١٢٣.
(٤) المرجع نفسه، ص ١٥٠.
(٥) المرجع نفسه، ص ١٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>