للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

به العمران. ولكن هاته الفطرة كانت بحكم الضرورة ميالةً إلى استلاب المنافع من أيدي أصحابها ورَوْم انضمامها إلى المصالح الذاتية، إحساسًا يجده الحيُّ في نفسه ويسمعه يوحي إليه في باطنه أن لو استطعتَ أن تملك الدنيا فافعل، به (١) أمكن أن يسعى المرءُ في نيل ما يحب.

ولكنه سيجد المدافع عن أخذ ما بيده، فيضطر إلى الفكر في استخراج ما يطلب من غير يد مالكه بأن يسعى إليه من جهة لم يُسبق عليها. تلك جهةُ الإحياء والاختراع التي لا ينطفئ نبراسُها من الأمم، ولكنه ينوس (٢) بمقدار الحاجة الداعية، كما قيل: "الحاجة أم الاختراع". ولكن النفوس من قبل أميلُ إلى الدعة والراحة، وأعشقُ للشيء المشاهد الحاصل، فلذلك يكون ميلُها إلى استلاب المملوكات أسبقَ من تفكيرها في ابتداع ما تشتهيه.

هكذا كان يجري هذا بين الأفراد في خاصتها، والقوم في قراها، والأمم في توسيع الممالك، وطموح كل أمة إلى تعميرها الأرض وإفناء ما سواها بالوجه الذي تراه. فكان التدافع بين أفراد النوع لذلك طبيعيًّا ناشئًا عن تحرك القوتين الشاهية والغاصبة عند التزاحم في مزدحم الحياة، وكذلك تكون المصالح غالبًا غير سالِمة من أضرار تعقبها هي منها بمنزلة ما تشتمل عليه الثمرةُ الطيبة من البزور والحلفايات.

فللتشريع في هذا أن ينظر بعد اقتضاء المصلحة العمرانية إلى ما تخلفه، فيكفي الناسَ مضرتَه بوجه تَسلم به تلك المصلحةُ من الأضرار. هذا الوجهُ هو حماية الحقوق؛ أي ردُّ يد الظالِم عن تناول ما للغير بدون رضا، وهو أمرٌ حسن توافق عليه الفطرةُ ما دامت غيرَ مستهواة لهوى غالب في جزئية خاصة. ولا تستقلُّ أمةٌ عن الحاجة إليه مهما بلغت من الرقي، فإن الأمم المنحطة لا يمكنها الوصولُ إلى إيفاء


(١) الضمير عائد على لفظة "إحساسًا"، ومعنى الكلام أنه بذلك الإحساس الذي يجده المرءُ في داخله أمكنه أن يسعى في تحصيل ما يحب.
(٢) ناس ينوس: تحرك وتذبذب.

<<  <  ج: ص:  >  >>