الحقوق أهلَها، فضرورتُها إلى القضاء ليست بالأمر الخفي. وأما الراقيةُ فإنها تتألف من جماعات فاضلة ومن أضدادها، فلا غنًى بها عن تأسيس قواعد العدل لإصلاح الدهماء ولإقناع الحكماء والعلماء؛ لأن هؤلاء وإن كانوا يعرفون العدلَ ويجزمون بحسنه، إلا أنهم في الأحوال الخاصة مأسورن للشهوة أو الغضب. فكأنهم يحبون أن يكونوا في تلك الحالة الخاصة استثناءً من هاته المصلحة الكلية، لِما يغلب من الهوى على التعقل. وهكذا يبقى ذو الهوى في كل مسألة يُحب الاستثناء، فإذا جاءت النوبةُ غيرَه أحبَّ أن يكون مستثنى أيضًا، وأغراه الطمعُ أن يقاس على سالفه.
فكان العدلُ إذن أصلَ العمران، وبه قامت الأرض ودامت الدول. وكان أهمُّ ما ينشأ عنه صفتين إن هما تحققتا سعدت الأمةُ ودام بقاؤها، ألا وهما: الحريةُ والأخوة. فإن الحرية إن لم يكن معها عدلٌ ذبلت حتى تسَّاقط إلى الحضيض؛ إذ حقيقتها أن يأخذَ المرءُ بكل حقوقه، وأن يفيَ بجميع حقوق غيره، وأن يصدعَ بآرائه. وهذا كلُّه لا يكون بغير العدل.
كيف يجد المرءُ بغير العدل الأخذَ بكل حقوقه وهو يرى الكثير منها مستترًا في حصون العظماء، فلا تستطيعُ يدُه وصولًا إليه ولا فمُه أن يبديَ حنينًا عليه؟
أم كيف يمكنه أن يسلم حقوقَ غيره وهو إن ترك أخذَ حقِّه وزاد فسلم للناس حقوقَهم رجعت كفُّه صفرًا، ولم يجد في حياته ما يتخذه ذُخرًا؟
وكيف يمكنه التجاهرُ برأيه، وهو يعلم أن كلمةً تُغضب زيدًا وعملًا يسوء عمرًا فلا يأمن من الأذى بأصنافه؟
وبهذا ينمحي تغييرُ المنكر والأمرُ بالمعروف من الناس، ذلك الوصفُ الذي إن فقدوه فسدوا وذلوا، قال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي (١) يومًا: "إني
(١) واسمه إياس بن صبيح بن الحرش بن عبد عمرو، كان من أهل اليمامة من أصحاب مسيلمة، وهو قاتل زيد بن الخطاب بن نفيل يوم اليمامة. ثم تاب وأسلم وحسن إسلامه، وولِي قضاءَ البصرة بعد عمران بن الحصين في زمن عمر بن الخطاب.