وهذا يدل على اشتراط العلم في القاضي. والعلم مهما أُطلق في لسان أهل الأصول والمتقدمين، فإنما يُراد به أصدقُ معانيه، وهو الفكرُ والنظر. فلا يصح عند الأئمة ولايةُ قاضٍ عامِّيٌّ أو مقلِّدٍ لا يستطيع النظرَ في مدارك الأحكام أو في مسائل الخلاف، قال عبد الوهاب في التلقين:"ولا يُستَقْضَى إلا فقيهٌ من أهل الاجتهاد لا عامي مقلِّد؛ [لأنه يحتاج فيما ينزل من الحوادث إلى الاجتهاد. فلا يصح أن يكون عاميًّا؛ لأنه ليس بمجتهد] ". (١)
وشرح المازري فقال: "وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب: فإن لم يكن عالم، فعاقل ورع؛ فإنه بالعقل يقف وبالورع يسأل. فهذا قول ابن حبيب سهل في ولاية القضاء المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على قاض نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدعو إلى ولاية مقلِّد. ولا خلافَ أن ولاية النظار أجدرُ من ولاية المقلد، وإنما الخلافُ هل تصح ولايةُ المقلد وتنفذ أحكامه أم لا؟ فيمنع ذلك الشافعي، وهو الذي يحكيه أئمةُ مذهبنا عن المذهب، ويجيز ذلك أبو حنيفة ويأمره بمشاورة النظار. واحتج أصحابُنا وأصحابُ الشافعي بقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء: ١٠٥]، وبقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)} [النساء: ٥٩].
أما عصرُنا هذا، ففي إقليم المغرب لا يوجد مفتٍ نظَّار، فالمنعُ من ولاية المقلد تعطيلٌ للأحكام، ولكن تختلف أحوال المقلدين. ثم إذا كان النظر شرطًا، فهو يتضمن المنعَ من اشتراط الإمام على رجل نظار أن لا يحكم إلا بمذهب أحد الأئمة؛ لأن الرجل إذا أداه اجتهادُه إلى الصواب وأُمِر أن يَقضيَ بخلاف ما عنده فقد صار مأمورًا بمخالفة الحق في اعتقاده. فإذا انعقدت الولايةُ على هذا الوجه، فإن هذا عقدٌ
(١) البغدادي، القاضي أبو محمد عبد الوهاب: التلقين في الفقه المالكي، تحقيق محمد ثالث سعيد الغاني (بيروت: دار الفكر، ١٤١٥/ ١٩٩٥)، ص ٥٣٠.