للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على كتاب الله تعالى، ولا يصغي إلى ما يقر به الغرورُ من الاستخفاف وتهوينِ أمر الله عند عامة عباده.

"فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما وقال: ارجعا [إليَّ] أعيدا علي قضيتكما": هذا أصلٌ عظيم في أن المرء لا يأمن من الخطأ ما بلغ به العلم، وأنه يجب تعقبُ الأحكام لإزالة الخطأ عنها. وإن تقرر الخطأ للقاضي إذا لاح له فاستنكافه عن نقض حكمه شرُّ الجورين، فإن جُعِل ذلك إليه بالولاية فظاهر، وإن لم يُجْعَل إليه نقضُ أحكامه وجب عليه رفعُها لمن إليه النقضُ والإبرام.

"متطبب والله": قد يقف النظر هنا، ريثما يستبين أمرَ هاته الكلمة. فإنه يرى أبا الدرداء بعد أن نصح له سلمان بأن المتطبِّبَ لا يأمن أن يقع فيما يُدخله النارَ وقَبِلَ النصيحةَ منه، أخبر عن نفسه بأنه متطبِّب، فيتساءل: لماذا لم يترك هاته الخطة لطبيب؟ فيظن أن هاته كلمةُ تواضعٍ منه، ولكنه ما يقدم خطوته حتى يرى يمينَ أبي الدرداء على ذلك الذي يعين كلامه للحقيقة.

وقد كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتادوا من قدوتهم الأعظم العصمة، فصاروا على وجلٍ من اقتحام القضاء بين الناس مع انتفاء العصمة، ولذلك قال أبو بكر - رضي الله عنه -: "أيُّ أرض تُقِلُّني، وأيُّ سَماءٍ تُظِلني، إن قلتُ في كتاب الله شيئًا من رأيي؟ " (١)

فكذلك أبو الدرداء لمَّا اعتبر بكلام سلمان، رأى أن التطبُّبَ لا يفارق غيرَ المعصوم، فقال: "متطبب والله". فينبغي أن يكون مرادُه تطببًا غير التطبب الذي أراده سلمان. وأحسب أنه أراد به عدمَ أمن المجتهدين من الخطأ في اجتهادهم، فهو لا يسلم من الوعيد إلا إذا بذل مقدارَ استطاعته مع مظنة المقدرة والتأهل من نفسه؛ لأن الخطأ لا ينافي العلم والنظر، ولا يُلَامُ في ذلك إلا حيث يكون الخطأ في محل


(١) الطبري: جامع البيان، ج ١، ص ٧٢، وفيه: "إذا قلت في القرآن ما لا أعلم"، بدل: "إن قلتُ في كتاب الله شيئًا من رأيي".

<<  <  ج: ص:  >  >>