الإيمانُ به فيما يرجع إلى الاعتقاد مع الإجمال والرمز؛ لأن الأشياء التي لا تُدرك بالكنه ولا يبلغ إليها فهمُ العقول لا فائدةَ في تفصيل الوصف فيها، وإنما ينبه القرآن أو السنة المؤمنين إلى أصل وجودها.
الوجه الثاني: أنه معارِضٌ لِمَا ثبت في الصحيح في سنن الترمذي ومسند أحمد وأبي داود - ليس داود الطيالسي - عن عبادة بن الصامت وعن أبَيٍّ بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"أولُ ما خلق الله القلم". (١) فهذا الحديث هو الذي يُعوَّل عليه لصحته، وهو يعارض حديثَ عبد الرزاق المتكلَّم عنه؛ لأن معنى الجمع بين المتعارضَيْن أن يمكن التصديقُ بمعنى كلٍّ منهما. فإذا كان التصديقُ بمعنى أحدهما يلزم منه إبطالُ معنى الآخر، فليس ذلك من الجمع، بل يعود إلى الترجيح، أي ترجيح صدق أحدهما وإبطال الآخر.
(١) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي على النحو الآتي: "حَدَّثَنَا يحيى بنُ موسى، أخبرنا أبو داودَ الطَّيالسيُّ، أخبرنا عبدُ الواحدِ بنُ سُليمٍ، قال: قدمتُ مكَّةَ فلقيتُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ فقلتُ لهُ: يا أبا مُحَمَّدٍ إنَّ أهلَ البصرةِ يقولونَ في القَدَرِ. قال: يا بُنيَّ أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ نعم، قال: فاقرأْ الزُّخرُفَ، قال: فقرأتُ {حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)} [الزخرف: ١ - ٤]. قال: أتَدري ما أُمُّ الكتاب؟ قلتُ اللهُ ورسولهُ أعلمُ، قال: فإنَّهُ كتابٌ كتبهُ اللهُ قبلَ أنْ يخلُقَ السَّماءَ وقبلَ أنْ يخلُقَ الأرض، فيَهِ أنَّ فرعَونَ من أهلِ النَّارِ وفيهِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)} [المسد: ١]. قال عطاء: فلقيتُ الوليدَ بنَ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ صاحبَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألتهُ: ما كانتْ وصيَّةُ أبيكَ عندَ الموتِ؟ قال: دَعاني فقال: يا بُنيَّ اتَّقِ اللهَ، واعلمْ أنَّكَ لن تتَّقي اللهَ حتَّى تُؤمنَ بالله، وتُؤمنَ بالقدرِ كلِّهِ خيرِهِ وشرِّهِ، فإنْ مُتَّ على غيرِ هذا دخلتَ النَّار. إنِّي سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ فقال: اكتُبْ. قال: ما أكتُبُ؟ قال: اكتبْ القَدَرَ ما كانَ وما هو كائنٌ إلى الأبدِ". قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه". سنن الترمذي، "كتاب القدر"، الحديث ٢١٥٥، ص ٥١٩ - ٥٢٠؛ البيهقي: السنن الكبرى، "كتاب السير"، الحديثان ١٧٧٠٣ - ١٧٧٠٤، ج ٩، ص ٤ - ٥؛ "كتاب الشهادات"، الحديث ٢٠٨٧٥، ج ١٠، ص ٣٤٤.