للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان الحديثان قد عين كلٌّ منهما أولَ ما خلق الله تعالى من المخلوقات. ولفظ "أول" لفظٌ ظاهر الدلالة على معنى السبق الحقيقي، أي التقدم في الوجود على ما سواه. وأحد الحديثين عين لهذا السبق شيئًا غير الذي عينه الحديثُ الآخر، فثبت التعارضُ بينهما لا محالة.

وذكر صاحبُ "المواهب اللدنية" في الجمع بين الحديثين تأويلين. أحدهما حاصله أن يكون النور المحمدي هو أول المخلوقات على الحقيقة، ويكون القلم أول المخلوقات بالنسبة لما عدا النور المحمدي. (١) وهذا بعيد؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبين للناس أولَ المخلوقات ما كان يعوزه أن يذكر النور المحمدي ثم يُردفه بالقلم. التأويل الثاني أن المراد بأول المخلوقات في هذين الحديثين وفي أحاديث أخرى مروية بأسانيد بعضها صحيح وبعضها ضعيف تقتضي أن أول المخلوقات العرش أو الماء، هو أولية كل شيء مما ذكر بالنسبة إلى جنسه. وهذا الوجه فاسد لانعدام فائدة التفضيل فيه، ولأن من الأشياء التي أُثبِتت لها الأوليةُ ما ليس له أفراد، كالعرش والقلم، ومن الأشياء ما هو الجنس كله، كالماء. (٢)

الوجه الثالث: أن حديث جابر جعل نورَ أبصار المؤمنين مخلوقًا من الجزء الرابع، مع أن أبصار المؤمنين ليست لها خصوصية في الإبصار على أبصار سائر الناس، وإنما تتفاوت الأبصار بالحدة والضعف بالخلقة، ولا أثر في ذلك لإيمان ولا كفر. ولذلك لجأ شارحُ المواهب إلى تفسير الأبصار بالبصائر، (٣) ولكنه صنع اليد لا يساعد عليه لفظ الحديث. على أن قوله في الحديث: "ومن الثاني نور قلوبهم" يتأكد به ما حمله عليه شارحُ المواهب.


(١) شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، ج ١، ص ٨٩ - ٩١.
(٢) انظر التأويلين المذكورين في المرجع نفسه، ص ٩٢ - ٩٤.
(٣) المرجع نفسه، ص ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>