للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأن غلبة العدو التام العداوة غلبةٌ مشتملة على إهانة بخلاف غلبة العدو الذي له بالمغلوب صلة واقتراب، فإنها لا تخلو من رحمة وتجنب للإهانة، كما قال البحتري:

وَفُرْسَانٌ هَيْجَاءُ تَجِيشُ صُدُورُها ... بِأَحْقَادٍ حَتَّى تَضِيقَ دُرُوعُهَا

وَتْقتُلُ مِنْ وَتْرٍ أعزَّ نُفُوسِهَا ... عَلَيْهَا بِأَيْدٍ مَا تَكَادُ تُطِيعُهَا

إِذَا احْتَرَبَتْ يومًا فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا ... تَذَكَّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا (١)

وكما قال الحماسيُّ لمَّا أراد القودَ من أخيه حين قتل ابنه، ثم ألقى السيفَ من يده وقال:

أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ

كِلَاهُمَا خَلَفٌ مِنْ فَقْدِ صَاحِبِهِ ... هَذَا أَخِي حِينَ أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدِي (٢)

وعليه فليس الْمرادُ من تسليط العدوِّ الذي هو من أنفس الأمة تسليطَ الاستئصال؛ لأن ذلك غيرُ متوهَّمٍ في العرف أن يصدر من متسلط من أنفس القوم. ويدل لذلك قولُه في آخر الحديث: "حتى يكونَ بعضُهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا".

والحديث على هذا البيان لا ينافيه شيءٌ مما حدث من أحوال المسلمين في التاريخ. فقد تسلط العدوُّ على طوائف من المسلمين غير مرة، بعضُها كان تسلطًا معتادًا كالحروب الصليبية، وبعضُها كان فوق المعتاد كتسليط التتر والمغول على


(١) من قصيدة قالها الشاعر في مدح الخليفة العباسي المتوكل على الله. ديوان البحتري (القسطنطينية: مطبعة الجوائب، ط ١، ١٣٠٠ هـ)، ج ١، ص ٣. والوَتْرُ والوِتْر: الظلم، والموتور: الذي قُتل له قتيل فلم يدرك بدمه.
(٢) هذا الشعر نسبه أبو تمام وابن داود إلى أعرابِيٍّ، ولم يسمياه. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج ١، ص ٢٠٧ (الحماسية رقم ٤٦)؛ الأصبهاني، أبو بكر محمد بن داود: الزهرة، تحقيق إبراهيم السامرائي ونوري حمودي القيسي (الزرقاء/ الأردن: مكتبة المنار، ط ٢، ١٩٨٥)، ج ٢، ص ٥٥٠. وهناك اختلافٌ في بعض الألفاظ بين الروايتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>