للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسلمين في المشرق سنين طويلة أهلكت الحرث والنسل إلى أن اعتنقوا الإسلام وصاروا إخوةً لِمَنْ كانوا أعداءَهم. وكتسلط القرامطة على بلاد العرب، وتسلط النصارى على المسلمين في مصر والشام أواخر القرن السادس وأوائل السابع، وتسلط الجلالقة على المسلمين في المغرب ببلاد الأندلس حتى انجلى عنها المسلمون وأصبحت أرضَ كفر، ولكن المسلمين الذين كانوا بها حلُّوا في ديار أخرى وانضموا إلى جامعتهم فلم يكن ذلك استئصالًا لهم، بله أن يكون استئصالًا لسائر الأمة وتمزيقًا لجامعتها وسلطانها.

وقد اقتتلت فرقُ المسلمين غير مرة قتالًا معتادًا أو أشدَّ من المعتاد، وحسبك منه قتالُ الخوارج الذي دام سنين طويلة، ولم يفض إلى تفانيهم واستئصال بعضهم بعضًا. وعلى هذا [يكون] (١) قولُه في حكاية جواب الله تعالى: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا" غايةً لانتفاء تسليط بعضهم على بعض ليست من جنس تسليط العدو عليهم، وشرط المعطوف بحتى أن يكون بعضًا من المعطوف عليه.

فتعين أن يكونَ في الكلام إيجازُ حذفٍ دل على عِظَمِ فضل الله تعالى على رسوله؛ إذ استجاب له بأكثر مِمَّا سأله: فإنه سأله أن لا يسلطَ عليهم عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتَهم فاستجاب له بذلك، وبأن لا يسلط عليهم من أنفسهم أيضًا مسلَّطًا في كون من الأكوان وحال من الأحوال إلى الغاية التي يكون بعضُهم فيها يهلك بعضًا ويسبي بعضُهم بعضًا.

وهذا الأسلوب يشبه أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه؛ إذ يوهم بظاهره أن تلك الغاية نهايةٌ لقوله: "أن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم"، وهي في الحقيقة ليست غايةً لذلك، فإن ذلك منتفٍ أبدًا إلى غير غاية، وإنما هو غايةٌ لمحذوف، وهو ما أشرت إليه آنفًا.


(١) زيادة اقتضاها السياق.

<<  <  ج: ص:  >  >>