ويجوز أن يكون المراد من قوله:"حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا" إلخ، غايةً لنفي تسليط العدو من غير تقييد كون العدو من غير أنفسهم، أي تسليط بعض المسلمين على بعض تسليطًا يستبيح بيضتَهم ويفني جماعتَهم. فيكون ذلك إخبارًا عن غاية من الزمان تحصل فيه فتنٌ عظيمة، فيرتد فريقٌ من المسلمين عن الإسلام ويكون مساويًا للفريق الباقين على الإسلام في العدد، وتزول منهم حرمةُ أحكامه فيقتل بعضهم بعضًا قتلَ استئصال حتى لا يبقى من يقول: الله، الله، كما ورد في الحديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق"، (١) وذلك بأن يسلط بعضَ المسلمين على بعض، ويسلب الغالبين رشدَهم فيهلكوا البقية، نظيرَ ما سلب الله نيرون سلطان الرومان من العقل حتى صار يَلَذُّ له إزهاقُ نفوس قومه وإحراقُ عاصمة سلطانه. فيكون هؤلاء قد {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨)} [إبراهيم: ٢٨]، وهي غاية بعيدة المدى، ما بقيت في المسلمين مِسكةٌ من هدى، نسأل الله أن يعيذ الأمة من هذه الحالة ببركة رسولها - عليه السلام -.
(١) صحيح مسلم، "كتاب الفتن وأشراط الساعة"، الحديث ٢٩٤٩، ص ١١٣٠، ولفظه عن مَعْقِل بن يسار: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". أما باللفظ الذي أورده المصنف فهو من كلام عبد الله ابن عمرو بن العاص كما خرجه مسلم ("كتاب الإمارة"، الحديث ١٩٢٤، ص ٧٦٥): "حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال: كنت عند مسلمة بن مخلد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم. فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة! اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم. وأما أنا فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم مَنْ خالفهم، حتى تأتيَهم الساعةُ وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مسُّها مسُّ الحرير، فلا تترك نفسًا في قلبه مثقالُ حبةٍ من الإيمان إلا قبضتْه، ثم يبقى شرارُ الناس، عليهم تقوم الساعة".