للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٩ - ومنها أن لا يكون الجوابُ عن المسألة يثير فتنةً لِقصورِ الناس عن إدراك أمثالها، ولم يزل الأئمة يجتنبون الخوضَ في دقائق العلم بين العامة. ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "لو رأيت رجلًا أتى عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لأبايعن فلانًا، فما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. فغضب عمر، ثم قال: إنِّي لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاعَ الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس. وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة فيطيروها عنك كلَّ مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها. فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دارُ السنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهلُ العلم مقالتك، ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أولَ مقام أقومه بالمدينة". (١)


= "الجزء الأول من كتاب القضاء"، ج ٨، ص ١٢. وانظر في معناه ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع الثاني"، ج ١٨، ص ٣٠٠ - ٣٠١. وقد أورده القرافي منسوبًا لمالك، وعلق عليه بكلام نفيس يجدر سوقُه هنا تنبيهًا وعظةً لأقوام يتقحمون الإفتاء ويتجاسرون على أحكام الشريعة ومسائل العلم وقضايا الفكر عامة بدون تأهل لذلك فيُهلِكون ويَهلَكون. قال عليه رحمة الله: "يريد (يعني مالكًا): تثبت أهليتُه عند العلماء، ويكون هو بيقين مطَّلِعًا على ما قاله العلماء في حقه من الأهلية؛ لأنه قد يظهر من الإنسان أمرٌ على خلاف ما هو عليه، فإذا كان مطلعًا على ما وصفه به الناسُ حصل اليقينُ في ذلك. وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محَنَّكًا". ثم قال: "وهذأ هو شأنُ الفتيا في الزمن القديم، وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج، وسهُل على الناس أمرُ دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح، وعسُر عليهم اعترافُهم بجهلهم وأن يقول أحدُهم: لا أدري. فلا جرم آل حالُ الناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال". كتاب الفروق، ج ٢، ص ٥٤٦ - ٥٤٧.
(١) صحيح البخاري، "كتاب الحدود"، الحديث ٦٨٣٠، ص ١١٧٦ - ١١٧٧. وقد ساق المصنف الحديث بتصرف. وانظره كذلك في: البزار: البحر الزخار، الحديث ١٩٤، ج ١، ص ٢٩٩ - ٣٠٢ (مسند عمر بن الخطاب).

<<  <  ج: ص:  >  >>