للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفي الإسلام عن المتصف ببعض الأفعال، نعلم أن ذلك مرادُه به غيرُ ظاهره، ونحمله على معنى يناسب ذلك النفيَ والغرضَ منه.

وقد اتفق علماءُ الأمة على تأويل هذه الأحاديث بقانون يعم جميعَها، ناظرٍ إلى اعتبار لفظ "ليس منا" ونحوه مستعمَلًا في كلام العرب لإخراج المخبَرِ عنه معنى من نوع المجرور بـ "من" الواقع في الخبر معنى. وقانونُ تأويله أنه جاء للزجر والتهويل، فقد نُقل عن سفيان بن عيينة أنه يكره الخوض في تأويله ويقول: "ينبغي أن يمسك عنه ليكون أوقعَ في النفس وأبلغَ في الزجر"، (١) يعني مع اعتقاد عدم إرادة ظاهره عند العلماء.

وتأوَّله بعضُ الشراح بأن المراد "ليس من أهل هدينا وسنتنا"؛ أي ليس من خيرة المسلمين. فيكون الضمير مجازًا مرسلًا علاقتُه البعضية، أو يكون في الكلام إيجازٌ بمجاز الحذف. وهذا تأويلٌ يستقيم في ضمير "منهم" العائد على لفظ المسلمين السابق، فإن معاده عام؛ إذ المقصود: مَنْ لم يهتم بأمر جميع المسلمين، والضمير على وزان معاده. وقال ابن المنَيِّر: المعنى أنه "ليس أهلًا لصحبتنا والاختلاط بنا". (٢) فعلى تأويله تكون "مَنْ" التبعيضية مستعارةً لمعنى "مع"، على طريقة الاستعارة التبعية.


(١) العسقلاني: فتح الباري، "كتاب الجنائز"، شرح الحديث ١٢٩٤، ج ١، ص ٨٢١.
(٢) اعتمد المصنف فيما قرره هنا على كلام الإمام ابن حجر في شرحه لحديث "ليس منا مَنْ شقَّ الجيوب، ولَطَم الحدود، ودعا بدعوى الجاهلية"، حيث قال: "قوله: ليس منا، أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه من الدين. ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست مني ولست منك، أي ما أنت على طريقتي. وقال الزين بن المنير ما ملخصه: التأويل الأول يستلزم أن يكون الخبر إنما ورد عن أمر وجودي، وهذا يُصانُ كلامُ الشارع عن الحمل عليه. والأولَى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يُهجر ويُعرضَ عنه، فلا يختلط بجماعة السنة تأديبًا له على استصحابه حالةَ الجاهلية التي قبحها الإسلام". فتح الباري، ج ١، ص ٨٢١. وأصل هذا الشرح للحديث عند ابن بطال الذي نسبه للمهلب، وقد جاء فيه: "قال المهلب: قوله: ليس منا، أي ليس متأسيًا بسنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلًا لطريقتنا التي نحن عليها". ابن بطال القرطبي: شرح صحيح البخاري، ج ٣، ص ٢٨٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>