فيسوقون هذا الكلامَ في هذا الغرض؛ لأنه لو كان ذلك المراد منه لقيل:"لا تعزيةَ بعد ثلاث"؛ لأن الفعل الذي يدل على هذا المعنى هو عزَّى المشدد. يقال: عزَّاه، أي جعله ذا عزاء، أي: صبر، مثل سلَّى. فيكون مصدره التعزية، مثل التسلية، ولم يُسمع في كلام العرب إطلاقُ لفظ العزاء على معنى التعزية. وبذلك يُجزم بأن لا تصح نسبةُ هذا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن فساد المعنى من علامات الوضع. فلو كان هذا الكلامُ قد رُوي حديثًا لعلمنا أنه موضوع، فكيف وهو لم يروه أحد؟
وأما بما سرى هذا الكلام إلى الأوهام، فهو سوءُ النقل وقلة التمييز؛ فإن أصلَ هذا القول هو كلامٌ مأثور عن الوزير يحيى بن خالد البرمكي أنه قال:"التعزيةُ بعد ثلاثٍ تجديدٌ للمصيبة، والتهنئةُ بعد ثلاث استخفافٌ بالمودة". (١) وهو كلامٌ نفيس مغزاه وجوب المبادرة بالتعزية والتهنئة؛ لأن في إيقاعهما بعد ذلك إدخالَ ضرر على أصحاب المصيبة، أو إيذانًا بقلة الابتهاج بحصول النعمة لِمَن حصلت له. وليس المراد ترك الأمرين بعد ثلاث؛ لأن ذلك أشد جفاء. فجاء بعض الضعفاء في الأدب فحرَّف لفظَ التعزية إلى لفظ العزاء، وقلب معنى التنبيه على الجفاء فصيره نهيًا، ثم عبر بصيغة نفي الجنس التي تُستعمل في النهي يظن نفسه قد نحى به منحى إيجاز الأمثال، وما آفة الأخبار إلا رواتها.
وقد توهم كثيرٌ من الناس في تونس بسبب هذا أن إقامةَ المآتم للميت هو أمر من السنة أخذًا بمفهوم العدد في مقالة "لا عزاء بعد ثلاث". فجعلوه شاهدًا شرعيًّا لبعض عوائدهم إقامةَ مأتَم يوم الدفن والمَأْتَم المُسمَّى بالفرق الأول - وهو ثالث
(١) القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري: نزهة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، تحقيق محمد مرسي الخولي (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، ١٩٦٢)، ج ٢، ص ٣٥٣. ويساق هذا الكلام كذلك مساق مثل من أمثال العرب بلفظ: "التعزية بعد ثلاث تجديدٌ للمصيبة، وإعادةٌ لفتح الجروح، والتهنئة بعد ثلاث استخفافٌ بالمودة". ويُنسب كذلك إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.