فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطَلَقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، فقال: لعله. ثم قمت فركبت فرسي ورفعتها تقرب حتى دنوت منهم فسمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، فلما قربت منهم ساخت يدا فرسي في الأرض، فخَرَرْتُ عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمةً إذا لأثر يديها عُثانٌ ساطع في السماء - يعني دخانًا - فناديتهم بالأمان فوقفوا حتى جئتهم، ووقع في نفسي أن سيظهر أمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية لمن جاءهم بك، وإني لا أُريبُكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. ورجع سراقه وكتم أمرهم". هذا مختصر خبره، وهو في صحيح البخاري أطول. (١)
وسمع المسلمون في المدينة بخروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجرًا إليهم، فكانوا يغدون كلَّ غداء إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا الانتظار، فلما آووا إلى بيوتهم إذا يهوديٌّ كان على أطم من آطامهم بصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يملك اليهودي أن نادى بأعلى صوته: "يا معاشرَ العرب هذا جدكم - أي: بختكم - الذي تنتظرون"، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من بظهر الحرة. وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرج ثم من ثنية الغائر، فتلقاه المسلمون من ظهر الحرة، فعدل بهم ذاتَ اليمين حتى نزل قباء في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين الثاني عشر - وقيل الثامن - من ربيع الأول الموافق لشهر أيلول، أي: اشتنبر. ونزل بدار كلثوم بن الهدم، وكان يجلس للناس في بيت سعد بن خثيمة المدعو بيت الأعزاب. وبقى هنالك بضع عشرة ليلة، ثم دخل المدينة يوم الجمعة، والناس سائرون معه ما بين ماش وراكب. وصعدت ذواتُ الخدور على السطوح يقلن (من الرمل عروضه مجزوء وضربه مُعَرَّى):
(١) صحيح البخاري، "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث ٣٩٠٦، ص ٦٥٨ - ٦٥٩.