للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السنة والسيرة البالغ مجموعُها مبلغَ التواتر المعنوي المفيد القطع بنتائج استقرائه، بحيث نحن في غُنية عن جلبها، إذ ليس هو الغرضَ من مقالنا هذا. وإنما أردنا أن نؤسِّسَ له ما نبني عليه جدرَ غرضنا الذي هو ذكرُ انتهائه - صلى الله عليه وسلم - إلى طور بلوغ الأشد؛ فإن وقت انبثاق ذلك النور الذي أُودعت (١) فيه نفسُه الزكية إذ أوحى إليه الروح العظيم من أمر الله، كما أفصح عنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: ٧]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧].

فلا جرم أن ذلك الروحَ الذي أُوحيَ إليه هو روح الرحمة للعالمين. إن لله تعالى الصفةَ الكبرى، وهي صفة الرحمة بخلقه، فلله إرادةُ الرحمة بخلقه، كما قال: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦)} [الإسراء: ٦٦]. والرحمة اسم لانفعال نفساني يحصل لمن يعلم حاجة مخلوق ذي إدراك على الإسعاف بما ينفعه أو إلى إزالة ما يضره فينشأ عن ذلك الانفعال أثر، وهو إرادةُ صاحبه إيقاع ذلك الإسعاف أو تلك الإزالة بقدر الإمكان مع الحذر من إفضاء ذلك الإسعاف إلى حاجة أشد من التي رحم لأجلها.

والرحمة إذا وُصف بها اللهُ تعالى فإنما تُحمَل على أثر ذلك الانفعال؛ لاستحالة الانفعالات على الله تعالى، ولضيق اللغة عن الوفاء بصفات الله بالكنه. وقد دلنا على سعة تلك الصفة - أي سعة متعلقاتها بأن وصف نفسه العلية بوصفين مشتقين من مادتها جامعًا بينهما - قولُه تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣)} [الفاتحة: ٣]. (٢) وقد تعلقت


(١) سقطت تاء التأنيث في الأصل.
(٢) قال المصنف عند تفسير هذه الآية: "وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ؛ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين، أي: مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يُتبَع ذلك بوصفه بالرحمان أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم. فلما كان ربًّا للعالين وكان المربوبون ضعفاء، كان احتياجهم للرحمة واضحًا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحًا. فإن قلت: إن الربوبية تقتضي الرحمة؛ لأنها إبلاغُ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانًا؟ قلتُ: لأن الرحمة =

<<  <  ج: ص:  >  >>