١ - تعلقًا مودَعًا في أصل التكوين، إذ جعل خلقهم على نظام ملائم لتكوينهم وبقاء أنواعهم واقتدارهم على دفع المهلكات والغوائل على حسب مقدار ما يقتضيه كلُّ نوع لحفظه من أضداده المخالطة له غالبًا. وهذه رحمةٌ مُودَعةٌ في أصل تكوين عالمهم ومظاهره الطبيعية، وفيما أوجده حولهم من القوى الطبيعية والموجودات الحيوانية والنباتية والمعدنية، وفي تكوينهم وسط ذلك تكوينًا يمكنهم من الانتفاع بآثار هذه الرحمة بما ألهمهم وأودع فيهم من الإرادة عند دعاء ضروراتهم وحاجاتهم. وهذه الرحمة هي المسماة أيضًا باللطف المشار إليها بقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ}[الشورى: ١٩]، وبقوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣)} [النازعات: ٣٣].
ومظهر هذا التعلُّق من الرحمة يبدو على الإنسان وعلى العجماوات بقانون وناموس متحد الماهية، وإن كانت ماهيتُه متفاوتةً في القوة بحسب تفاوت أصناف الحيوان في سعة الإلهام وتفاوت أفراد الصنف الواحد في أطوار نمائه الذاتي التابع للسن. وقد أفاض الله تلك القوى على مخلوقاته مقارِنةً لفيض وجودهم ونمائهم، ولم يبلغها إلى مخلوقاته تدريجًا في العصور. فإذا كان تدريج في آثاره، فذلك من اختلاف الحاجات إلى استعمال تلك القوى.
= تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات، بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيهًا على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها. فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة، كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، . ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان، مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا، كالطهارة وبث مكارم الأخلاق. ومنها ما منفعته للجمهور، فتتبعها رحمات الجميع، لأن في رحمة الجمهور رحمة بالقية في انتظام الأحوال كالزكاة". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج ١، ص ١٧٣.