٢ - وتعلقًا ثانيًا خارجًا عن حدود التعلق الأول، وهو رحمتُهم بحفظ نظامهم الاجتماعي من أن يدخل عليه ما يفضي إلى اختلاله واضطرابه، بحيث يتسرب الانخرام إلى النوع تسربًا خفيًّا لا يُستشعر معه وجوبُ مدافعته. وذلك في أعمالهم التي أوكل التصرفَ فيها وتصريفها إلى كسبهم وقدرتهم، ووضع لهم منبع تصريفها، وهي العقول وسلامة أسباب الأعمال وآلاتها العقلية والجسمانية.
ولم يترك الله تعالى رحمتَه بهم في إقامة تدبير شؤونهم على نظام معصوم من الفساد والاضطراب، فأراد أن يوجِّه إليهم الإرشادَ فيما لا تصل مداركُهم إلى إدراك معموله أصلًا (مثل دقائق المصالح والمفاسد بالنسبة إلى البشر وكثير من الأشياء بالنسبة إلى العجماوات)، أو لا تبلغ مدى ما يفضي إليه من صلاح يلوح في صور مكروهة أو فساد يلوح في صورة محبوبة (وهذا بالنسبة إلى البشر خاصة)، قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}[البقرة: ٢١٦]، وما فيه كمال أحوالهم من مجتمعهم وتزكية نفوسهم تقريبًا لهم بالملأ الأعلى. وعظيمُ مظهر هذه الرحمة بادٍ في أحوال الإنسان، وما ينال العجماواتِ منه فإنما هو بواسطة الإنسان.
وكانت إفاضةُ هذه الرحمة على الناس إفاضةً متدرجة بحسب ما اقتضته حكمة الله تعالى من رعي أحوالهم وقابليتهم الصلاح، فساق إليهم الهدى على ألسنة الرسل تأصيلًا وتفريعًا في أطوار عديدة من تاريخ البشرية والحضارة إلى أن بلغت حكمةُ التدبير الإلَهِي بهم طورَ الكمال، هنالك أفاض عليهم الرحمة الكاملة قال تعالى:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}[الأنعام: ١٥٧].
فبنا أن نتعرف كيف وصلت هذه الرحمةُ الكاملة العامة بأنواعها ومظاهرها إلى الإنسان - سلطان هذا العالم (١) - وكيف أبلغها الله إليهم ودلَّهم على أنه ساقها
(١) جرت عادة المصنف في وصف الإنسان على استخدام عبارات مثل "المهيمن على العالَم"، و"سلطان العالَم"، وذلك للإشارة إلى المقام العالي والمكانة الخاصة اللذين يتميز بهما الإنسان من بين سائر =