للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إليهم من عوالمه اللدنية. لنتبين غرضنا من مقالنا نجد أعظم ما يبين لنا ذلك قولَه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧]، فنرى أن ما سبق من الشرائع رسالةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - كان هديًا ونورًا، وذلك فيه رحمة. إلا أن الله ادخر وصفَ محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة وبعمومها العالمين لمغزى دقيق، حيث لم تبلغ الرحمةُ من قبله الغايةَ التي أراد الله تأخيرها. فنعلم أن المراد أن رسالته امتازت بكمال الرحمة وأنه منح صفة الرحيم فبلغ كمالَ الرحمة البشرية، وذلك الكمال بوفرة الرحمة إلى الحد الأقصى المناسب الدال عليه التنكير في رحمة، وهو تنكير التعظيم بقرينة تخصيصه بالرسالة المحمدية أو لعمومها العالمين، كما دل عليه تعريفُ الاستغراق في العالمين فيستغرق كلَّ العالمين على اختلاف الاحتمال في معنى العالمين في هذه الآية كما سيأتي.

والاستثناء في قوله: "إلا رحمة" من عموم أحوال محمد - صلى الله عليه وسلم -، فرحمة حال من ضمير المخاطب فهو وصفٌ له. وكون الوصف بصيغة الصدر يفيد من المبالغة في كون الرحمة حالة متمكنة من خلقه ما يفيده حملُ الاسم على اسم آخر من معنى الاتحاد بين مدلولَيْ ذينك الاسمين، والمقصود أن إرساله مقارنٌ لشدة الرحمة وعمومها. ويدل لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا رحمة مهداة"؛ (١) أي مهداة من


= المخلوقات بوصفه المخلوق الذي كرمه الله تعالى بأن سخر له الأرض وحمله أمانة التكليف والخلافة فيها.
(١) رواه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "ذخيرة الحفاظ"، وقال رواه مالك بن سعير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ولم يذكر له علامة الضعف. - المصنف. المقدسي، محمد بن طاهر: ذخيرة الحفاظ المخرج على الحروف والألفاظ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائى (الرياض: دار السلف، ١٤١٦/ ١٩٩٦)، الحديث ٢٠٦٦، ج ٢، ص ٩٩٢. ورواه الحاكم بلفظ: "يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة"، ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجا جميعًا بمالك بن سعير، والتفرد من الثقة مقبول". الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله: المستدرك على الصحيحين، طبعة متضمنة لانتقادات الذهبي وبعناية أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي (القاهرة: دار الحرمين للطباعة والنشر، ط ١، ١٤١٧/ ١٩٩٧)، "كتاب الإيمان"، الحديث ١٠٠، ج ١، ص ٨٢ - ٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>