للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله تعالى إلى الخلق. وهذا الإهداء هو سر معنى الإرسال في قوله تعالى: {أَرْسَلْنَاكَ}، فافهم دقة سره. ومن مكمِّلات كون شريعته رحمة كاملة أن الله قدر أن تكون صفةُ المرسل بتلك الشريعة هي صفة الرحمة أيضًا.

وإذ قد كان أصلُ غرضنا الكلامَ على صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصف الرحمة، فلنتبين مظهر تلك الرحمة في مقامين: مقام تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ومقام إحاطة الرحمة بتصاريف شريعة كلها.

١ - فالمقام الأول عماده قوله تعالى في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧]. وقال أبو بكر محمد بن طاهر: (١) "زين الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بزينة الرحمة، فكان كونُه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق"؛ (٢) أي أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فُطِر على خلق الرحمة في سائر أحوال معاملته للأمة لتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليها من وحي الشريعة التي هي رحمة، حتى يكون تلقيه الشريعةَ عن انشراح وطمأنينة قلب؛ لأنه يجد ما يلقى إليه ملائمًا رغبتَه وخلقه.

ولذلك خص الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بوصف الرحيم، ولم يوصف به أحدٌ من أنبيائه ورسله، إذ قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨]، وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: ١٥٩]، أي: برحمة خلقك الله عليها لنت لهم، فمظهر رحمته الذاتية في معاملاته الناس في سائر أحوال المعاملة. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله لنفسه"، وقالت: "ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا


(١) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي الأندلسي الإشبيلي، من علماء أواخر القرن الخامس، أخذ عن أبيه وعن أبي الغساني، وأجاز له أبو الوليد الباجي. وقوله هذا مرويٌّ في الشفاء لعياض. - المصنف.
(٢) اليحصبي: الشفاء، ص ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>