وخلاصةُ الأمر أن جوعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عن خصاصة، ولا يلحقه من جرائه أسف ولا تعب. ولو كان ذلك عن خصاصة لما دام عليه الرسولُ إلى آخر عمره، وقد فتح الله له الفتوح بعد الهجرة وفاضت الأموال في آخر حياته. فقد فُتحت خيبر سنة سبع، وكانت بلاد نخيل كثير، فكان لرسول الله منها الخمس وقد شارط اليهود أن يعملوا في نخيلها ويزرعوا من أرضها ولهم نصفُ ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وفتحت فدك بدون قتال فكانت فيئًا، لرسول الله من ذلك الخمس. فما كان رسول الله يتوسع في عيشه بعد هذا الثراء الواسع، بل الذي ثبت غير ما حديث من الصحاح أن رسول الله ما استبدل حالة عيشه حتى توفاه الله تعالى، وما يقتني إلا تمرًا وشعيرًا، وكان يبث ما عدا ذلك في الأقربين من المهاجرين واليتامى وعدد [من] المسلمين.
وأوضحُ الآثار في ذلك ما ورد في الصحيحين عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان وسعد والزبير وعبد الرحمن؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء يرفأ فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم، فدخلا، فقال العباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا. فتكلم عمر كلامًا طويلًا جاء فيه: إن الله قد كان خص لرسوله في هذا الفيء شيئًا لم يعطه أحدًا غيره، فقال جل وعز:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[الحشر: ٧]، فكانت خالصةً لرسول الله، ووالله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم. لقد أعطاكموها، وبثها حتى بقي منها هذا المال، فكان رسولُ الله ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي
= ما نأكل إلا ورق الشجر والحبلة حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير وأصبحت بنو أسد يعزروني في الدين، ولقد خبت إذن وضل عملي"". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بيان". سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث ٢٣٦٥، ص ٥٦٣. وقريب منه ما أخرجه مسلم: صحيح مسلم، "كتاب الزهد والرقائق"، الحديث ٢٩٦٦، ص ١١٣٥. وانظر كذلك صحيح البخاري، "كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -"، الحديث ٣٧٢٨، ص ٦٢٨.