فتحقَّقَ أن الأسبابَ لا قيمةَ لها إلا بمقدار ما يحصل من آثارها أو يتعطل منها. ومن أجل هذا، نجد أن كمالاتٍ في بعض الموجودات تُعدُّ نقائصَ في غيرها، فكثرةُ الأكل محمودة في الخيل وهي مذمومة في الإنسان، ووجود الجوارح كمال فينا؛ لأن انعدام شيء منها يُكسبنا عجزًا عن بعض الكمالات، والله تعالى منزه عن الجوارح؛ لأن ما تقصد له الجوارح ثابت لله تعالى بذاته بدون واسطة، فتمحضت في جانب الله لأن يكون تقدير اتصافه بها تعالى الله عن ذلك نقصًا، إذ لم يبق لها من الآثار حينئذ إلا ما فيها من الاحتياج والنقص. وكذلك الولد كمال للإنسان؛ لأنهم سبب الاعتزاز بهم والانتفاع بهم مع أن نسبة الولد إلى الله تعالى نسبة نقصية لثبوت الغنى المطلق له تعالى، فتمحض الولد بتلك النسبة للكون نقصًا لما يحف به من نقيصة الاحتياج إلى التوليد والمشاركة في صفة الألوهية.
فكذلك صفة الأمية تعد في العرف نقصًا في الناس؛ لأنها تحول بين المتصف بها وبين انكشاف حقائق الأشياء له، إذ قد استقر ناموس العادة أن العلم لا يحصل إلا بالتعلم، فالأمِّيُّ بحكم العادة غير واصل إلى العلميات التي بها انكشاف حقائق الأشياء الذي يعقبه اجتناء فوائدها والتمكن من استعمالها فيما تُراد له. وقد يحصل للأمِّيِّ معارف قليلة بالتلقين أو التجربة أو بمخالطة أهل العلم، إلا أن ذلك حظ ضئيل مبعثر ينقرض في تحصيله معظمُ العمر، وهو على ضآلته قابلٌ للتشكك عند أدنى تشكيك، فلا يحصل به الكمال العلمي الحقيقي ولا لذة المعرفة والاطلاع، ولا يُكسب
(١) البيت من قصيدة قالها المتنبي في مدح علي بن أحمد عامر الأنطاكي. ومعناه أن مَنْ يجمع المالَ خوف الفقر فإن ذلك هو الفقر حقيقة؛ لأنه إذا جمع حُرم، والحرمان فقر. وقال الخطيب القزويني معناه: إذا أفنيت عمرك في جمع المال ولم تنفقه، فقد مضى عمرك في الفقر، فمتى يكون غناك؟ وقال العكبري: وهذا البيت من أحسن الكلام وبديعه، وهو من كلام الحكمة. ديوان المتنبي بشرح البرقوقي، ج ٢، ص ٢٥٥.