فكيف لا يتم الاستدلالُ بشواهد عناية الله بعبده على أنه أعده لأمر جليل، ألا وهو السِّفارةُ عنه إلى الخلق؟ وهذا كحفظ موسى من الغرق، وتيسير رجوعه إلى أمه، وكحفظ محمد من التلبس بأحوال المشركين ونقائصهم، وعصمته من أعدائه.
وهذا الاستدلالُ هو الذي يسير بنا إلى فتح باب المعجزات الخفية، وإلى التوسع في تسميته. فأعني بالمعجزات الخفية الأحوالَ والأفعال الصادرةَ من محمد والأحوالَ الملابسة له، الدالةَ على أنه رسولٌ من الله، ناطقٌ عن وحي.
والفرق بين الإرهاصات وما سميناه بالمعجزات الخفية من جهتين: الأُولى أن الإرهاصات من قبيل خوارق العادات، والمعجزات الخفية دلائلُ بطريق النظر بطريق خرق العادة. والثانية أن الإرهاصات حاصلةٌ قبل النبوة، والمعجزات الخفية حاصلةٌ مع النبوة، أي مستمرةٌ معها وبعدها ولو كان بعضُها حاصلًا قبلها، وهي من خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا النوع من الدلائل الخفية حظٌّ عظيم من الدلالة على تصديق الله الرسول الحافة به تلك الدلائل، يجري على المنهج الذي نهجه أئمةُ المتكلمين في تقرير وجه دلائل المعجزة على تصديق الله الرسول. وذلك أن هذه الأحوالَ الحافة بالرسول منبئةٌ عن أن الله مقدر الأكوان والأحوال وميَسِّر الموجودات لما خلقت له، قد يسر تلك الأحوالَ لتكون دلائلَ لصدق الرسول عند طوائف من أهل النظر والاعتبار، لا سيما الذين فاتَهم مشاهدةُ المعجزات بالأبصار. ووقعُها في نفوس الخاصة أشدُّ من وقع المعجزات المقارنة للتحدي من حيث إنها دلائلُ حاصلةٌ بدون تعمُّل ولا مباراة (١) ولا إشعار من صاحبها.
(١) كذا في الأصل، وهو استعمال صحيح، أي أنها دلائل حاصلة بدون تعرض لها ولا قصد في اقتناصها.