وهذا الأسلوب تنفعل له نفوسُ الخاصة المشغوفة بحب الوقار والجلال، ومن حيث إنها لا يلوح جميعُها في وقت واحد ولا لكل أحد. ونفوس الخاصة تعجب بالأدلة المتعاقبة عن فترة بعد فترة، ليكون مجيءُ الدليل الموالي عقب سابقه واردًا على العقل بعد التملِّي من وجوه دلالة السابق، أو واردًا بعد انقضاء الطائفة التي ورد عليها الدليلُ السابق. فإن أهل النظر والعلوم يحبون أن يعثروا على نكتٍ جديدة على قاعدة "كم ترك الأول للآخر"، ففي ذلك نشاطٌ لهممهم العلمية لا يحصل لهم من الاشتغال بالفوائد المُعادة على قاعدة "هل غادر الشعراء من متردم". (١)
وهي تشبه خوارقَ العادات من حيث إن جميعها إن تأملتَه وجدته صادرًا في أزمنة وأحوال يعز أن يصدر أمثالها في أمثالها. أما إذا اعتبرت مجموع طائفة منها قليلة أو كثيرة، فإنك تجد اجتماعها وتظاهرها يقارب أن يكون خارق عادة، وتقوى تلك المقاربةُ بمقدار تكاثر ما لاح للناس منها؛ لأن اجتماعَ الأمور المتناسبة يُبعدها عن الصدفة، ويقربها من قصد نصب الدلالة، فيوشك حينئذ أن تُساويَ المعجزةَ المشهورة في نيابتها منابَ قول الله تعالَى:"صدق عبدي فيم أخبر عني".
وهذا النوع أيضًا يمت بصلة إلى إعجاز القرآن في الدوام؛ لأن جزئيات هذا النوع غير منحصرة، وإذًا لا يهتدي إليها إلا النظارون المنصفون، ومعظمهم ممن يجيئون بعد وفاة الرسول. فالذي يهتدي منهم إلى إظهار معجزة من هذا النوع والذين يبلغهم ما اهتدى إليه ذلك المهتدي، كلُّ أولئك يأخذون بحظٍّ مما أدركه أصحابُ الرسول الذين شاهدوا معجزاته، فتُجَدَّد لهم وبهم دلائلُ الإيمان، وتعود أنوارُه فيهم وفي عصرهم، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويدخل الناسُ بذلك في الدين زرافاتٍ ووحدانا. فبهذه الخصيصة يشارك هذا النوعُ معجزةَ القرآن في الدوام وعدم الانتهاء.
(١) هذا صدر طالع معلقة عنترة، وعجزه هو: "أم هل عرفت الدار بعد توهم". ديوان عنترة، ص ١٨٢.