ولعلنا نستروح لهذا النوع من المعجزات لمحةً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من الأنبياء نبي إلا أُوتِي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلَيَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"، (١) فلفظُ الوحي وإن كان يتبادر إلى القرآن وهو بحق أجل أنواع الوحي، لكن مما يدخل في الوحي أيضًا معظمُ أقوال الرسول وأفعاله في التشريع والهدي والمعارف، مما أظهره إلى الناس تصريحًا أو رمزًا.
وإنا إذا استثنينا التأييدات الجبليةَ ومقارنات الحوادث التاريخية المتعلقة بالذات المحمدية، نرى معظمَ ما عدا ذلك من المعجزات الخفية من قبيل الوحي، إذ هو أقوالٌ وأفعال وإرشاد، صادرةٌ من الرسول جميعُها، صادرةٌ عن وحي، أو مؤيَّدةٌ بوحي، على ما اختاره المحققون من أئمة أصول الفقه.
ووجه تفريع قوله:"فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يوم القيامة"، ظاهرٌ مما قدمناه هنا. ويتضح من هذا أن هنالك صلةً متينة وانتسابًا قويًّا بين عموم دين الإسلام ودوامه، وبين المعجزات الخفية الصالحة لاستمرار الحجية بها، والمتجدد بعضُها عقب بعض.
ثم الحكمة في إخفاء هذا النوع من المعجزات وعدم توقيف الشارع الناس عليها، أنها لما كانت مما لا يستوي الناس في إدراكها، لا في عصر حياة الرسول ولا في العصور التي بعده، فإن معظمَها مما لا يهتدي إليه إلا أهل العقول المستنيرة. ولأن منها ما لا يتهيأ للناس إدراكُ دقائقه في بعض عصور مضت، لأنه متوقِّفٌ على ظهور حقائق علمية لم تتكامل في بعض العصور، كان إخفاءُ هذا النوع لحكم أربع:
إحداهما: إبطال عناد من قد يزعم أنه لم يجد فيها دلالة على الصدق؛ لأن الأمور النظرية معرضةٌ للخفاء وللمكابرة، فإن خفاء الحق يجرئ المعاند على الإنكار، كما قال علي بن عباس الرومي: