للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَجَرُ، فإذا هي المدينة يثرب". (١) فكان من تيسير الله أن ساق إليه النفر الستةَ الأولين من الأوس الذين أسلموا من أهل يثرب، فإن موقع المدينة كان وسطًا من أرض العرب، فكان بلوغُ دعوة الإسلام إلى بلاد العرب بانتشار شعاعي، وهذا أيسر عمومًا مما لو كانت دار الهجرة اليمامة أو هجر في الطرف الشرقي من بلاد العرب.

٣ - الحكمة الثالثة أن أهلَ يثرب كانوا أقرب قبائل العرب لقبول شريعة الإسلام؛ فإنهم وإن كانوا قبل الإسلام مشركين يعبدون مناة وغيرها، إلا أنهم لشدة مخالطتهم لليهود - وهم أهل كتاب - كانت آذانهم قد اعتادت معاني التوحيد والشرائع، فكانت نفوسهم مرتاضة إلى ذلك.

٤ - الحكمة الرابعة أن الله جعل للمسلمين من أهمية موقع المدينة من بلاد العرب سلطانًا على أعدائهم من قريش أهل مكة؛ فإن قريشًا كانوا تجارًا وكانت لهم رحلةٌ في الشتاء إلى اليمن للجارة وأخرى في الصيف إلى الشام، سن لهم ذلك هاشم ابن عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك هو المسمى بالإيلاف. (٢) وكان مرورُهم إلى الشام على طريق المدينة من بطن عالج، فلما صارت المدينةُ دارَ سلام وثبتت العداوة بين أهلها وبين قريش صارت قريشٌ ترهب المرورَ على المدينة، فانقطعت تجارتهم إلى الشام، وهي أهم تجارتهم. وفي ذلك المعنى قال حسان بن ثابت مهددًا لقريش:

دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّأْمِ قَدْ حَالَ دُونَهَا ... جِلَادٌ كَأَفْواهِ المَخَاضِ الأَوَارِكِ (٣)

بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ ... وَأَنْصَارِهِ حَقًّا وَأَيْدِي المَلَائِكِ


(١) صحيح البخاري، "كتاب مناقب الأنصار"، ص ٦٥٥؛ صحيح مسلم، "كتاب الرؤيا"، الحديث ٢٢٧٢، ص ٨٩٥.
(٢) انظر في مغزى الإيلاف من النواحي التاريخية والاجتماعية والحضارية، سحَّاب، فكتور: إيلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف (بيروت: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٢).
(٣) الأوارك التي تأكل الأراك فيجرح لها أفواها فيسيل منها الدم. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>