للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يجوز للرسول ترك البيان اكتفاءً بالأدلة التي تلوح لمجتهدي الأمة. فتعين أن يكون الكتاب الذي هَمَّ به مقصودًا لأمر غير متعلق بإفادة تكليف ولا بشرع أُنُف، وأنه إنما كان في أمر يرجع إلى تنبيه الأمة أو بعضها إلى شيء من شؤون تدبير أمورهم العامة، وتحريضهم أو تحذيرهم في شيء مما سبق الإشارةُ إليه في القرآن والسنة.

وإن مَنْ مارس السنة النبوية يستيقن أنه قد كثرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام الأخير من حياته أقوالٌ مشيرة إلى قرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فبعضها صريح، وبعضها دونه، وأن أصحابه كانوا متفاوتين في التفطن إلى الإيماء منها، وقارن معظمَها إيقاظُ الأمة إلى الأخذ بالحزم في شؤون جماعتهم، والتعويل على استخدام مواهبهم في العمل بما سبق إليهم من الإرشاد، وحذرهم من عوارض تعرض للأمم، كقوله في خطبة حجة الوداع: "فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع، فأوصانا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه مَنْ يعش منكم يَرَ اختلافًا كثيرًا. . .""، الحديث. (١) وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)} [المائدة: ٥٤]. وفي حديث الصحيحين: "إني لأرى الفتن من خلال بيوتكم". (٢)


(١) أورد المصنف الحديثَ باختصار، وتمام لفظه: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بعد صلاة الغداة موعظةً بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجلٌ إن هذه موعظةُ مودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه مَنْ يعش منكم ير اختلافًا كثيرًا. هوإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ"". سنن الترمذي، "أبواب العلم"، الحديث ٢٦٧٦، ص ٦٢٩ - ٦٣٠. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
(٢) عن ابن شهاب قال: "أخبرني عروة: سمعت أسامة - رضي الله عنه - قال: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أطم من آطام المدينة، فقال: "هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقعَ الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"". =

<<  <  ج: ص:  >  >>