على ما يثبت صلاحها ويهذبه، أو يقتلع شرها ويذهب به، فله إرشاد مستمد من علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور.
وقد أومأ إلى هذا قولُه تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}[آل عمران: ١٧٩]، فالمجتبَى هو محمد - صلى الله عليه وسلم - لتمييز الخبيث من الطيب في سائر الأحوال. وما نزل قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ٣] إلا وقد كمل أمر الإرشاد إلى ما فيه صلاحُ العاجل والمعاد. وقد أرشد رسول الله بالقرآن، وبالخطب والمواعظ، والتعليم البالغ، وغير ذلك من مختلف طرق الإرشاد، في قوله وفعله، وسيرته وسمته، فكلها مفاتح هدى ورشد. وهذا الإرشاد باقٍ ما بقي هذا العالم، وملاكه هو القرآن المكتوب المقروء المحفوظ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان ذلك مقنعًا للمسلمين إذا دعوا إليه أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.
وقد عرضت أحوالٌ كان من المصلحة أن يكتب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبًا، إقامةً للحجة في مظان غلبة الهوى على الوازع الديني، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك من العرب وغيرهم، وكتب إلى بعض أمرائه كتبًا لتكون حجة لدى أقوامهم، وتذكرة لهم عند الاشتباه، مثل كتابه إلى عمرو بن حزم لما بعثه إلى بني الحارث بن كعب، فبين له فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات؛ لأن العرب يأنفون من تغير عوائدهم ويشمئزون من دفع أموالهم كالمغارم. وكتب بالإقطاعات وبالعطايا لكي لا يُنازَع المعطَى في عطيته. كلُّ ذلك لمصالح لا تفي بها الأقوال.
فهمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة كتابٍ في آخر أيامه مع أصحابه ليس لقصد التشريع؛ لأن الشريعة قد كملت، ولأنه لو كان لقصد التشريع لما عدل عنه ولما قال:"فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، إذ التشريع هو المقصد الأهم من بعثته، وكيف والله تعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة: ٦٧]؟ وكذلك ليس هو لبيان ما يحتاج إلى بيانه من المجملات الشرعية؛ لأن ذلك لا يناسب قوله:"ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، وإن كان