فكما لا يصح المزاجُ إلا بسلامة جميع أجزائه، كذلك لا تصلح المدينة إلا بصلاح جميع أفرادها. وكما أن بعض أجزاء الجسم أجدرُ بكمال السلامة ودوامها من بعض الأجزاء التي قد تشتكي، فتزول شكواها سريعًا عند سلامة البقية، وذلك البعض هو الأعضاء الرئيسية كالقلب والدماغ والرئة، كذلك المدينةُ تتطلب صلاحَ ولاة أمورها أكثرَ مما تتطلب صلاحَ عامتها. وإن صلاح ولاة الأمور يعود بصلاح العامة إذا عرض لها فسادٌ ما بخلاف العكس، كما تعود صحةُ الأعضاء الرئيسية بسلامة الجوارح والأعضاء إذا اشتكت وجعًا بخلاف العكس. فكان صلاحُ المدينة يتطلب صلاحَ ولاة الأمور، وصلاح أعوانهم، وصلاح عامة الناس على تفاوت في المقدار المطلوب من ذلك الصلاح.
ولنلتفت لفتةً تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحالة مجتمعها، ونقارن بين تلك الحالة وبين الصفة التي عُيِّنت للمدينة الفاضلة حتى نرى تحقق معنى المدينة الفاضلة في مدينة الرسول - عليه السلام -. فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيَّدُ بالعصمة، المسيَّر بالوحي والتوفيق الإلهيين، وهما ملاك الفضائل كلها.
وحسبُك برأس المدينة أن يكون بهذه المثابة؛ فإن الحكماء اشترطوا للمدينة الفاضلة أن يحكمها الحكماء المتصفون بصفات الكمال، وقد جمعها أفلاطون في عشر صفات، وهي: المعرفة، والإعراض عن التعلق بالدنيا، والصدق، ومحبة اللذات الروحية، والزهد، والعفة، والإقبال على الآخرة، والشجاعة، والإنصاف، وصحة العقل. وقد كانت هذه الصفات كمالات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت العصمة فوقها كلها.
وأما أعضاءُ رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة، أي أن يكونوا من العارفين. والعارف فسره الشيخ ابن سينا بأنه هو "الذي يريد الحقَّ الأول (سبحانه)