للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة؛ لأنهم ما كانوا يغيرون على القبائل الآمنة، ولكنهم كانوا يذبون عن مدينتهم من كل طارق بسوء. فكانت مدينتهم من أحصن مدن العرب في الجاهلية، واشتهرت بسورها، وبحصونها المنيعة المسماة بالآطام؛ (١) يتحصنون بها إذا دهمهم العدو. وكانت تحف بها بساتين النخيل التي تمونهم إذا حاصرهم العدو، على أن تلك الحوائط كانت فيها آطام لهم للدفاع عن ثمارهم.

فأما المهاجرون، فمن أهل مكة. وأهلُ مكة وإن لم تكن لهم سابقةٌ في الحرب؛ إذ كان العرب مسالمين لهم، إلا أن الفئةُ الذين آمنوا منهم قد أكسبهم الإيمانُ واليقين بالله، والغيرة على الحق، والحنق على المشركين، إقدامًا على الانتصار للدين، ظهرت بوادرُه في صبرهم واستخفافهم بعداوة أعدائهم. وقد أيَّد الله المسلمين في مدينتهم بعصمة إلَهية من أن يتطرَّقها ما يفسد أهلها. ففي الحديث أن "على أنقاب المدينة ملائكةٌ، لا يدخلُها الطاعونُ ولا الدجال"، (٢) وفي الحديث: "المدينة كالكير تنفي


= بني قريظة وبني النضير، بينما تحالف الخزرجيون مع مزينة وأشجع، والتقى الطرفان في منطقة تسمى بعاث. واقتتلوا قتالًا شديدًا، وتضعضع الأوسيون وحلفاؤهم، وقتل عدد كبير منهم وبدؤوا بالفرار، ولكن قائدهم حضير الكتائب ثبتهم، فقاتلوا بشجاعة وهزموا الخزرجيين وحلفاءهم، وهموا أن يقضوا عليهم نهائيًّا حتى صرخ رجل من الأوس: "يا معشر الأوس انسحبوا، ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خيرٌ من جوار الثعالب"، وكان يقصد اليهود. وبعد تلك الواقعة سئم الطرفان الحرب، وكرهوا الفتنة، وأجمعوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي ابن سلول ملكًا عليهم ليستتب الأمن وتنتهي الفتن. وشاء الله أن تحدث بيعة العقبة الأولى في مكة، ثم تلتها العقبة الثانية التي شارك فيها ممثلون للقبيلتين المتصارعتين، فكانت بداية التأليف للقلوب وجمعها على الإسلام، مصداقًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)} [الأنفال: ٦٢, ٦٣].
(١) الآطام بالمد جمع أُطُم بضم الهمزة وضم الطاء المهملة: الحصن بلسان أهل المدينة. - المصنف.
(٢) صحيح البخاري، "كتاب فضائل المدينة"، الحديث ١٨٨٠، ص ٣٠٢؛ "كتاب الفتن"، الحديث ٧١٣٣، ص ١٢٢٨؛ صحيح مسلم، "كتاب الحج"، الحديث ١٣٧٩، ص ٥١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>