ويتحقق حصولُ العبودية الاختيارية له تعالى بمقدار الامتثال لوصايا الشريعة الإلهية وتيسيره على النفوس، حتى تصيرَ كالغنية عن معاودة التذكير، وحتى يكون الانسياقُ إلى الطاعة ميسَّرًا عليها، وذلك باعتياد الامتثال وحب فعل الخير. وقد أومأ إلى ذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)} [الليل: ٥ - ١٠]، فقوله:"أعطى واتقى وصدق بالحسنى"، كنايةٌ عن أعمال الإسلام، وقوله:"بخل واستغنى وكذب بالحسنى"، كنايةٌ عن أضدادها من خصال الجاهلية. ومرجِعُ ذلك التيسير إلى أن تصيرَ الحسنى والفضائل دأبًا وعادة.
إن عادة الأعمال النفسانية تُسَمَّى خُلُقًا، والْخُلُق منه خلقٌ كريم ومنه خلق ذميم، وقد شاع في الاصطلاح تخصيصُ لفظ الخلق بالآداب النفسية الصالحة. وإذ قد تقرر بما قدمته أن خلاصةَ حكمة التشريع الإسلامي وغايته تيسيرُ الحسنى والفضائل حتى تصير دأبًا للمسلمين وعادة، استقام لنا أن أثرَ التشريع الإسلامي هو حصولُ مكارم الأخلاق. وقد تأيد هذا المعنى بما رواه مالك في الموطأ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"بعثت لأُتَمِّمَ حسن الأخلاق"؛ (١) أي لتحصيل غاية مكارم الأخلاق بإكمال ما أهملته الفطرةُ السليمة، وما أغفلته الشرائعُ السابقة والآداب، تنبيهًا عليها وحثًّا على تحصيلها. ولكن ذلك كلَّه لا يخلو عن نقصٍ في الكمية بإضاعة بعض مكارم الأخلاق، وفي الكيفية بضعفٍ فيه أو تحريف، وفي وسائل ذلك كله من أساليب الدعوة وسدِّ الذريعة وقلة الاكتراث باللائمة، ونحو ذلك مما امتاز به التشريعُ الإسلامي.
(١) سبق تخريجه في مقال "التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس" في القسم الثاني من هذا المجموع.