للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهناك دليلٌ آخر على ما أصَّلْناه، وهو قوله تعالى لرسوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤]. ولا شكَّ أن حالَ الرسول هو أكملُ ما تطلبه شريعتُه من أتباعه، وهو معنى كمال التشرُّع بالشريعة. ولذلك قالت عائشة لما سئلت عن خلق رسول الله: "كان خلقه القرآن"، (١) وهل القرآن إلا كتابُ الشريعة الإسلامية؟ فانتظم لنا من هذا القياس نتيجةٌ هي أن أثرَ التشريع الإسلامي هو مكارم الأخلاق، وأن تصير الأعمالُ التي يدعو الإسلام إليها خلقًا للمسلمين.

لو شئتُ أن أُفيضَ القولَ في بيان حكمة التشريع في فروع كثيرة من فروع الشريعة لأريتك أن الغاية منها التخلُّقُ بالمكارم في سائر الأحوال الفردية والاجتماعية؛ أي أن تصير الفضائلُ خلقًا للمسلمين. فثِق مني على الإجمال بأن سائرَ الأوامر والنواهي الشرعية ترمي إلى هذا الغرض، وأن جميعَ وصايا القرآن والسنة تحث على استخدام الإرادة في المداومة على العمل، وتصيير الامتثال ملكةً وسجية وعدم الإخلال بذلك، فلذلك كان كُلُّ إخلالٍ محتاجًا إلى الندم والتوبة.

وأوجَزُ برهانٍ على هذا وأقنعُه ما جاء في الكتاب والسنة مما يقتضي نفيَ الإيمان عن المرتبك في المعصية لأوامر الله، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: ١ - ٣]، وكقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: ١١] الموهم أن الفسوقَ يزيل الإيمان ويرفعه، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، (٢) يريد أن ذلك لا يقع منه وهو في حال الإيمان؛ أي


(١) سبق تخريجه في القسم الأول، في مقال: "التقوى وحسن الخلق".
(٢) جزء من حديث عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزنِي الزاني حين يزنِي وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرِق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً، =

<<  <  ج: ص:  >  >>