للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا علمتَ هذا، علمت أصلَ السبب في وجود ما يُسمَّى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتبَ التشابه وتفاوتَ أسبابها، وأنها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشرُ مراتب:

أولاها: معانٍ قُصد إيداعُها في القرآن، وقصد إجمالها إما لعدم قابلية البشر لفهمها ولو في الجملة إن قلنا بوجود المجمل الذي استأثر الله بعلمه على ما سيأتي - ونحن لا نختاره - وإما لعدم قابليتهم لفهمها بالكنه فألقيت إليهم على وجه الجملة، أو لعدم قابلية بعضهم في عصر أو جهة لفهمها بالكنه، وهذا مثل أحوال القيامة وبعض شؤون الربوبية، كالتجلي في ظل الغمام والرؤية والكلام ونحو ذلك.

وثانيتها: معانٍ قُصد الإعلامُ بها وتعيَّنَ إيرادُها مجملًا مع إمكان حملها على معان معلومة لكن بتأويلات، كحروف أوائل السور، ونحو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} [طه: ٥]، و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩]. (١)

ثالثتها: معان عالية ضاقت عن تمام كنهها اللغةُ الموضوعة لأقصى ما هو متعارَف الواضعين لا لغير المتقارب، فعُبِّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله، نحو "الرحمن"، "الرؤوف"، "المتكبر"، "نور السماوات والأرض".

رابعتها: معانٍ قَصُرت عنها الأفهامُ في بعض أحوال العصور، وأُودِعت في القرآن ليكون وجودُها معجزةً لأهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجام النظمي نحو: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: ٣٨]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ


= القاهرة، بدون اسم الناشر ولا تاريخ النشر ولا مكانه)، ص ٣٧٣ - ٣٧٦. وانظر كذلك مقدمة كتابه: متشابه القرآن، تحقيق عدنان محمد زرزور (القاهرة: مكتبة دار التراث، ١٩٦٩)، ص ٥ - ٣٩.
(١) لعل لفعل استوى خصوصيةً في اللغة أدركها أهل اللسان يومئذ كان بها أجدرَ بالدلالة على معنى تمكن الخالق من مخلوقه، ولذلك اختير في الآيتين دون فعل غلب أو تمكن أو نحوهما. - المصنف.

<<  <  ج: ص:  >  >>