للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإعجازُ القرآن منه إعجازٌ نظمي، ومنه إعجازٌ علمي، وهو ضربٌ عظيم من الإعجاز قدمنا بيانَه في مقدمة هذا التفسير. (١) فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها فيما تعرض إليه، جاء به محكمًا بعبارة تَصْلُح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر. وربما كان إدراكُ كنه حالته في نفس الأمر مجهولًا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء قومٌ بعدهم فأدركوا المراد منها، علموا أن ما عدّه الذين قبلهم متشابهًا ما هو إلا محكم.

على أن من مقاصدَ القرآن أمرين آخرين: أولهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتحَ أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين. وثانيهما تعويدُ حَمَلَةِ هذه الشريعة وعلماء الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقاتُ علماء الأمة صالحةً قي كل زمان لمشاركة المشرِّع في مراده من التشريع. ولو صيغ لهم التشريعُ في أسلوب سهل التناول، لاعتادوا العكوفَ على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحيةُ عباراته لاختلاف منازع المجتهدين قائمةً مقامَ تجديد الكتب والتآليف في اختلاف أنظمة التعليم. (٢)


(١) انظر للمصنف المقدمة العاشرة من: تفسير التحرير والتنوير، ج ١/ ١، ص ١٠١ - ١٣٠.
(٢) من المناسب هنا أن نورد كلامًا جيدًا للقاضي عبد الجبار في مغزى اشتمال القرآن على آيات متشابهات، حيث يقول جوابًا عن السؤال: "كيف يجوز أن ينزل ما يشتبه والمراد البيان؟ وجوابنا أن ذلك ربما يكون أصلح وأقوى في المعرفة، وفي رغبة كل الناس في القرآن إذا طلبوا آية تدل على قولهم، ويكون أقرب إذا اشتبه إلى النظر بالعقل ومراجعة العلماء، وهذا يجوز أن يعرف المدرس أنه إذا ألقى المسألة إلى المتعلم من دون جواب يكون أصلح ليتكل على نفسه وغيره. . . وبين تعالى أن من في قلبه زيغ يتبع المتشابه كاتباع المشبهة والمجبرة ظاهر ما في القرآن فذمهم بذلك. والواجب اتباع الدليل، وليس في المتشابه آيةٌ إلا ويقترن بها ما يدل على المراد. والعقل يدل على ذلك، فالله تعالى جعل بعض القرآن متشابهًا ليؤدي إلى إثارة العلم وإلى أن لا يتكلوا على تقليد القرآن، ففيه مصلحة كبيرة". قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد: تنزيه القرآن عن المطاعن (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، ٢٠٠٦)، ص ٥٩ - ٦٠. وانظر تفصيلَه لهذا الكلام في: المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج ١٦: إعجاز القرآن، تحقيق أمين الخولي (نشرة مصورة عن طبعة =

<<  <  ج: ص:  >  >>