وسببُ وقوع المتشابهات في القرآن هو كونُه دعوةً، وموعظة، وتعليمًا وتشريعًا باقيًا، ومعجزةً في آن واحد، وخُوطب به قومٌ لم يسبق لهم عهدٌ بالتعليم والشرائع. فكان جائيًا على أسلوب مناسب يجمع هذه الأمورَ الثلاثة بحسب حال المخاطَبين الذين لم يعتادوا الأساليبَ التدريسية والأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقالة.
فأسلوبُ المواعظ والدعوة قريبٌ من أسلوب الخطابة. وهو لذلك لا يأتِي على أساليب الكتب المؤلفة للعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأُودعت العلومُ المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع. فلا تجد أحكامَ النوع من المعاملات كالبيع متصلًا بعضها ببعض، بل تُلفيه موزَّعًا على حسب ما اقتضته مقاماتُ الموعظة والدعوة، ليخف تلقيه على السامعين، ويعتادوا علمَ ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه، فكانت متفرقةً يُضَمُّ بعضُها إلى بعض بالتدبر.
ثم إن إلقاء تلك الأحكام كان في زمن طويل يزيد على عشرين سنة، فأُلقيَ لهم من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتُهم وقَبِلَتْه مقدرتُهم. على أن بعضَ تشريعه أصولٌ لا تتغير، وبعضه فروعٌ تختلف باختلاف أحوالهم. فلذلك تجد بعضَها عامًّا أو مطلقًا أو مجملًا، وبعضَها خاصًّا أو مقيَّدًا أو مبيَّنًا. فإذا كان بعضُ المجتهدين يرى تخصيصَ بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصيات مثلًا، فلعلَّ بعضًا منهم لا يتمسك إلا بعمومه حينئذ، كالذي يرى الخاصَّ الوارد بعد العام نسخًا فيحتاج إلى التاريخ، أو لعل بعضًا يجيء فيرى أن عمومه هو المقصود الأصلي للتشريع وأن خصوصَه حكم خاص لزمان المخاطَبين، فيصبح الخاصُّ بيانًا لا تخصيصًا.
ثم إن العلومَ التي تعرَّض لها القرآن هي من العلوم العليا، أو هي علومٌ ما وراء المادة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، وعلوم الحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات مرادات هاته العلوم وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها ما أوجبَ تشابُهًا بين مدلولات الآيات الدالة عليها.