الهلال إلى أحوال. فكان هذا الجواب جاريًا على ما يُسمى في علم البلاغة بالأسلوب الحكيم، وهو إجابةُ الطالب بغير ما يتطلب، تنبيهًا له على أن ما أجيب به أولَى له بالقصد. فالمعنى في هذه الآية: الأولَى بهم أن يعلموا أن أحوال الأهلة مواقيت للناس، أي: مواقيت لجميع الناس؛ لأن جميع الناس يتمكنون من التوقيت بها، بخلاف أحوال الشمس فإن حلولها في بروج السماء غير واضح للأبصار.
وقد عُلم أن الأهلةَ مواقيتُ للصيام من سابق قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة: ١٨٣]، ثم قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ}[البقرة: ١٨٥]، فإن شهر رمضان معروفٌ أنه يبتدئ بهلالٍ وينتهي بهلال.
وإنَّ حقَّ تقليلِ الخلاف بين أحوال المسلمين يقتضي أن لا يُغفلَ عن تغير الأحوال عما كانت عليه في القرون الماضية، حين كان اتصالُ أخبار البلدان وتعرفُهم لأحوالهم بطيئًا جدًّا ومعرَّضًا للشك والنسيان، لضبط ما فات من أيام وساعات، وذلك يضطرهم إلَى مبادرة كل بلد بأخذ ما يحصل لديه من ثبوت الشهر الشرعي. (١)
(١) ومن أسف فإن هذا ما زال يحصل حتى الآن، حيث يندر أن تتفق حكومات العالم الإسلامي على التوحد في بدء شهر رمضان وشوال. ومن ثم كثيرًا ما يتخالف المسلمون في الصيام والإفطار بما يبلغ اليومين أو حتى أكثر، مع تطور العلاقات وسرعة التواصل بين أقطارهم، بفضل وسائل الاتصال السريعة والفعالة. يحصل ذلك مع كثرة ما عقد من اجتماعات رسمية بين العلماء والفقهاء وممثلي الحكومات حول مسألة توحيد رؤية الهلال بالاستفادة من تطور علوم الفلك واعتماد الوسائل التقنية المتقدمة، ومع الاتفاقات التي مُهرت لاعتماد مراكز معينة يكون منها رصدُ الهلال. وبمجرد ما يعود المشاركون في تلك الاجتماعات والموقعون على تلك الاتفاقات إلى بلدانهم، يُنسى الأمر، بل كثيرًا ما يُتَعمَّد عدمُ الالتزام به بسبب منازع سياسة ودعاوى عزة وطنية أو قومية، فيبقى ما اتُفِق عليه حبرًا على ورق. وهكذا تتكرر المسرحية ذاتها كل عام شاهدًا على مدى المفارقة وبعد الشقة بين القول والفكر من جهة والفعل والسلوك من جهة أخرى، حتى في أبعد الأمور عن قصور السياسة وشغبها وهرجها. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإليه المشتكى من حال أمة يمثل التوحيد قطب عقيدتها ومحور شريعتها!