للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحبس من مبتكَرَات الإسلام، وهو من الاصطلاحات الإسلامية الجليلة، ولا يُعرف له نظيرٌ في الجاهلية. قال ابن رشد في المقدمات: "لا يُعرفُ جاهليٌّ حبس دارَه على ولده أو في وجه من الوجوه المتقرَّبِ بها إلى الله تعالى، وإنما فعلت الجاهليةُ البحيرةَ والسائبةَ والوصيلة والحامي". (١) وعن الشافعي رحمه الله: "الوقف من خصائص هذه الأمة، ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية". (٢) قلت: ليس في البحيرة ونحوها ما يشبه الحبسَ، إلا البحيرة التي يُمنع لبنُها فلا تُحلب إلا للطواغيت، (٣) فلها بالحبس شبهٌ ضعيف. والوقف غير موجود أيضًا في شريعة التوراة ولا في المسيحية.

وكان أول وقف في الإسلام وقف عمر بن الخطاب، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، إني أصبتُ


(١) ابن رشد: المقدمات الممهدات، "كتاب الحبس والصدقة والهبة"، ج ٢، ص ٤١٦ - ٤١٧.
(٢) لم أعثر على هذا الكلام بلفظه، وإنما وجدت ما يعبر عن معناه بصورة واضحة، فقد ذكر الشافعي طرفًا من مقالة بعض منكري الوقف على أساس شبهه بما كان في الجاهلية: "وقال لي بعض مَن يحفظ قولَ قائل هذا: إنا رددنا الصدقات الموقوفات بأمور، قلت له: وما هي؟ فقال: قال شُريح: جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الْحُبُس، فقلتُ له: وتعرف الحبس التي جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطلاقها؟ قال: لا أعرف إلا حُبُسًا بالتحريم، فهل تعرف شيئًا يقع عليه اسم الحبس غيرها؟ . . . فقلت: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: ١٠٣]، فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل الله شروطَهم فيها، وأبطلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبطال الله إياها". ثم قال: "ما علمنا جاهليًّا حبس دارًا على ولد، ولا في سبيل الله، ولا على مساكين، وحبسهم كانت كما وصفنا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام"، ليقرر بناءً على ذلك: "ولما صارت الصدقات مبتدأة في الإسلام لا مثال لها قبله، فعلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر"، إلخ. الشافعي: الأم، "كتاب إحياء الموات/ الخلاف في الحبس"، ج ٥، ص ١٠٦ - ١٠٧ و ١١٠ و ١٢٤.
استدراك: هذا الكلام ورد في (فتح الباري) لابن حجر، ج ٥، ص ٤٠٣، حيث قال: وأشار الشافعي إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام. . . أما في (الأم) فقد قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية. . . وإنما حبس أهل الإسلام. (الأم) ج ٤، ص ٥٤، طبعة دار المعرفة ١٤١٠ هـ.
(٣) أي الأصنام.

<<  <  ج: ص:  >  >>