للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد هذا كله، فليس وجودُ الفساد في بعض الأحباس مما يقتضي إبطالَ أصل الحبس، وإلا لزم أن تبطل الهبةُ والصدقة؛ فإن القائلين بمنع التحبيس على بعض الأولاد دون بعض قائلون أيضًا ببطلان الهبة لبعض الولد، وهي التي ورد فيها حديث النعمان بن بشير. وما يكون من الحبس على غير الورثة لا يتهم فيه المحبس على قصد تغيير المواريث؛ لأن التحويز المشترَط عند عامة الفقهاء يدفع هاته التهمة، إذ لا يُظنُّ بأحدٍ أن يخرج ماله في صحته نكايةً بوارثه.

نعم، تقوم التهمةُ المذكورة على رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة القائل بصحة وقف الواقف شيئًا على نفسه ثم من بعده ممن يعينه، والقائل بصحة شرط الواقف في وقفه أن يبقى حوزُ الموقوف في يده إلى موته، فيصير بعده لِمَنْ عَيَّنَه. وهذا رأيٌ اختص به أبو يوسف، ولم يوافقه عليه أحدٌ من علماء المذاهب، وفيه مجالٌ من النظر يجول في قاعدة اعتبار المقصد أو اللفظ.

فأما تحبيسُ المرء على نفسه ثم على مَنْ يعيِّنه، فهو مخالفٌ لأصل الحبس في الشريعة الإسلامية؛ لأن أصلَ الحبس على اختلاف كيفياته إنما هو من العطايا، وماهيةُ العطية أنها إخراجُ مالكِ المال شيئًا من ماله عن ملكه إلى غيره، فأيُّ معنى للتحبيس على النفس؟ ولذلك قال فقهاء المالكية ببطلان حبس مَنْ حبس على نفسه وعلى غيره، ولم يزالوا يحكمون بفساد هذا النوع من الحبس عندما يقع التخاصمُ فيه لدى قضاة المالكية. (١)

وأما شرطُ المحبِّس الانتفاعَ بغلة ما حبَّسه مدةَ حياته فهو في معنى الحبس على النفس؛ لأنه عطيةٌ لا يستحقها المعطَى إلا بعد موت المعطِي، فهو في معنى الوصية،


= إنما كانت على البنين والبنات حتى أحدث الناسُ إخراجَ البنات، وما كان من عزم عمر بن عبد العزيز أن يرد ما أخرجوا منها البنات يدل على أن عمر ثبت عنده أن الصدقات كانت على البنين والبنات". المدونة الكبرى، ج ٦، ص ١١١ - ١١٢.
(١) نهاية القسم الأول.

<<  <  ج: ص:  >  >>