فيقتضي أن لا يمضي إلا في ثلث تركة المحبس وعلى غير وارث، وإلا لكان تغييرًا للمواريث. وإن نظرنا إلى اللفظ وجدناه قد عبر عنه بالحبس، واعتضد بجعل المحبِّس نفسَه كواحد من المحبَّس عليهم؛ إذ حجر على نفسه بيعَ ما حبسه ورهنه، وبذلك خالف الوصية، وكذلك التحبيس مع اشتراط عدم التحويز، فغلَّب أبو يوسف اللفظ على المقصد. ولعلنا نعضد هذا التغليب بأن فيه بناءً على أصل حرية الأموال، لكن هذا التغليب ضعيف من حيث النظر، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فهو تغيير للمواريث لا محالة، أو حرمان للوارث أصلًا، ولأن حريةَ التصرف في الأموال لها حدٌّ قد خرج عنه هذا النوع من التحبيس.
غير أن فقهاء الحنفية استحسنوا قولَه، وجعلوا القضاء به، لِمَا فيه من تيسير التحبيس على الناس ترغيبًا في حصول المنافع الراجعة لمراجع خيرية من مصالح المسلمين. فلو اشتُرِط تحويزُ المحبَّس عليهم في حياة المحبِّسين لانكفَّ كثيرٌ منهم عن التحبيس؛ لأن خلعَ المالكِ ملكَه عن نفسه أمرٌ صعب على النفوس. ولذلك قلد قولَ أبي يوسف كثيرٌ من الناس في أحباسهم، وكأنهم رأَوْا هذا التحبيسَ لا يخلو من مرجع عام بعد الأعقاب أو بعد نفس المحبِّس، فكرهوا أن يَحُولوا بين تلك المصارف الخيرية وبين منفعة هاته الأحباس.
هذا ملاكُ الاجتهاد والترجيح في قول أبي يوسف ومَنْ رجحه. والتحقيقُ أن قول أبي يوسف منافٍ لقصد الشريعة من إبطال حرية التصرف في المال في حالة ما بعد الموت، مع ضعف مُدْرَكه بعدم وجود نظيرٍ له في أحباس السلف، وفيه تهمةُ قصد المحبِّسين حرمانَ بعضِ الورثة دون بعض؛ لأنهم لمَّا عَلَّقُوا إنجازَ التحبيس إلى ما بعد الموت فقد صاروا يراعون حالةَ الميراث لا محالة.
بقي أن يقال: إن الحبس الذي يشتمل على إعطاء بعض الأولاد دون بعض، أو حرمان الزوجة إذا تسلط على جميع المال أو على معظمه، كان فيه تهمةُ قصدِ حرمان مَنْ أُخرج من الورثة. فنقول: هو لا يندرج تحت قاعدة مخالفة مقصد الشريعة في إبطال المواريث؛ لأن المحبِّسَ لم يُعَلِّقْه على موته، ولكنه يندرج تحت قاعدة المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، وهي قاعدةٌ من قواعد الفقه غير المطردة