وقد أشار هنالك إلى أن المباحات ليس لولِيِّ الأمر تحجيرُها إلا إذا حفت بها مفسدة، وقد علمتَ مما قدمناه أن الحبسَ لا مفسدةَ فيه، فليس تحجيرُه بحقٍّ لولِيِّ الأمر. على أنه لا يكفي في إثبات كون شيء مفسدةً أن يعتقد ذلك رجلٌ أو رجال، أو يشيروا به على ولي الأمر، فقد قال سهل بن حُنيف - رضي الله عنه -، وهو من أهل بيعة الرضوان:"اتهموا الرأي". (١) فإذن لا بد لولاة الأمور في مثل هذه الحوادث من جمع علماء الشريعة وعرفاء الأمة لينظروا في تحقق صفة الفعل وتطبيق القواعد الشرعية عليه، كما هي قاعدة الشورى. فإذا تبين لهم أن في الفعل مفسدةً عارضة له، فالواجب النظرُ في إزالة العارض. وإن وجدوا العارض ملازمًا للفعل الأصلي، تعين عليهم النظرُ في كثرة الملازمة وندرتها على قاعدة أصل سد الذريعة الذي تقدم آنفًا.
فإن قال قائل: هل لولاة الأمور أن يحيلوا الأمة على الجري على قول ضعيف لبعض العلماء مثل شريح بعدم جواز الحبس؟ قلنا: إن كان القول الضعيف له دليل وجيه، إلا أن دليل غيره أرجح منه، فالواجب استشارة علماء الأمة حتى يشهدوا بأن في الحمل عليه مصلحة معتبرة؛ لأنه يجب على ولي الأمر إن كان من رجال العلم بالفقه والشريعة أن يستشير غيره، لاحتمال أن يخطئ في نظره، وليس الخطأ في مصالح الأمة بالأمر الهين، وإن لم يكن عالِمًا فوجوب الاستشارة عليه أشد، وعدوله عنها تعريض بمصالح الأمة للإضاعة، وذلك ينافي ولاية أمور المسلمين.
فقد اتفق علماءُ الإسلام على أن ولاةَ الأمور لا يجوز لهم التصرفُ في شؤون الأمة بمجرد الشهوة والهوى، بلِ الواجبُ عليهم توخِّي المصلحةَ الراجحة والمساوية. وهذا الحملُ من قبيل ما يُسمَّى عند المالكية بالعمل، إذا أذن به السلطان
(١) أخرج البخاري عن أبي وائل قال: "لمَّا قدم سهل بن حُنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبِي جندل [أي يوم الحديبية] ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصمًا إلا انفجر علينا خصمٌ ما ندري كيف نأتي له". صحيح البخاري، "كتاب المغازي"، الحديث ٤١٨٩، ص ٧١١. وذكر ابن قتيبة أن قائل هذا الكلام عثمان بن حنيف لا سهل. الدينوري: الإمامة والسياسة، ج ١، ص ٩٩.