للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يصلح] للفقير لسد خلته، حتى ينتظم عيشُه كما انتظم عيش الأغنياء، وحتى لا يلجئه الاضطرارُ إلى ارتكاب ما يفضي إلى فساد النظام.

قلت: قد أومأ الشرع إلى أن علتها - أعني مظهر حكمتها - هو الغنى، لما ورد في حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن: "فأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم". (١) فقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم" إيماءٌ، وهو من مسالك التعليل، وعرفوه وعرفوه بأنه اقتران الوصف بحكم لو لم يكن مسوقًا للتعليل لكان ذكره عبثًا. فالغنى هو قلة الاحتياج للغير بالتحصيل على واحد من ثلاثة أشياء:

أولها: ما يدفع الحاجةَ بذاته، كالطعام الذي يُستخرج من الأرض والحيوان، واللباس الذي يستنتج من الحيوان، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥)} [النحل: ٥]، وقال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠)} [النحل: ٨٠].

ثانيها: ما يدفع الحاجة بتعويضه، كالقدر الزائد على حاجة الإنسان مما ذكرناه، فإنه يستبدل بذلك القدر غيره مما يحتاج إليه، وهو أصلُ التبايع. وقد كان العرب يتبايعون بالتمر والطعام والحيوان، ويدفعون ذلك أثْمَانًا في العقار، وصدقات في الزواج، ويتداينونها ويقضون بها الديون. وكان لهم مع ذلك الفضة والذهب، وهو أقل. قال زهير:

تُعفَّى الكُلُومُ بِالْمِئِينَ وَأَصْبَحَتْ ... يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ (٢)

ثالثها: ما اصطلح البشر على جعله عِوضًا للأشياء، بحيث إن مَنْ يبذله يستجلب به ما يحتاج إليه مهما دعت الحاجةُ بدون تريث، وذلك النقدان. فنتحصَّلُ


(١) سبق تخريجه.
(٢) ديوان زهير بن أبي سلمى، ص ١٠٦. والبيت من المعلقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>