ويضطر أصحاب الزياتين إلى التعامل معهم وتلحق من ذلك أضرار شديدة تخل بالحاجي من ثروة المسلمين، لا حاجة إلى التطويل ببيانها فإنها لا تخفى.
ففي منعهم من هاته المعاملة إدخالُ أضرار عليهم، وليس في المنع من هاته المعاملة منفعةٌ لخضَّارة غلة الزياتين، بل تدخل عليهم من منعها أضرارٌ كثيرة. فكانت هاته المعاملة منفعة عظيمة للمقترضين، ومنفعة قليلة للمقرضين، وفيها مصلحةٌ عامة، وهي إعانة الناس على العمل وانتشال الخضارة من الاقتراضات الربوية.
ومراد سحنون بالضرورة الحاجة الأكيدة؛ لظهور أن إسلاف الحاج الكعك والدقيق ليس من الضروري بالمعنى الأصولي الذي هو حفظ أحد الكليات الخمسة، لظهور أن الحاج لم ينحصر قوته في تلك المعاملة، بل هو يرجع إلى الحاجي. ولو كان ضروريًّا بالمعنى المشهور لم يقع فيه خلاف، ولذلك اعترض ابنُ عرفة في مختصره على أبي الطاهر ابن بشير حكاية الخلاف في إسلاف القمح السائس بالسالم في المسغبة، قائلًا:"لم يحك غير ابن بشير في المسغبة إلا الجواز"، (١) يعني لأن المجاعة توجب الهلاك. وعليه فسحنون اعتبر الحاجة، فحكم بالجواز وألغى انجرار المنفعة. والقول المشهور نظر إلى انجرار المنفعة من السلف، ولم يعتبر الحاجة. ومدرك سحنون أقوى، ولذلك قال اللخمي: إن قول سحنون حسن.
فإذا تقرر هذا، فقد جرى عمل الناس في هاته المعاملة أخذًا وإعطاء على خلاف المشهور، بل على ما يجيزه سحنون، فلو وقع التقاضي في بعض هذه المعاملات لحكمنا بفسخها على المشهور. وأما في غير مقام التقاضي، فلا ينبغي التعرض للناس بإبطالها، لما تكررت به فتوى أبي سعيد بن لب أن ما جرى عليه عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يُلتمس له مخرج شرعي على ما أمكن من وفاق أو
(١) لم يحقق ويطبع من "المختصر الفقهي" لابن عرفة إلا الجزء الأول الذي صدر عن دار الكتاب الجديد ببيروت سنة ٢٠٠٣ مشتملًا على كتابي الطهارة والصلاة، ولم يتهيأ لنا الاطلاع على مخطوطته، ولذلك تعذر علينا توثيق ما نقله المصنف منه.