لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان عشرون دينارا في كلّ شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب ومائل إلى قراءة كتب الأدب كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحسّ بهذا مني يعاتبني عليه وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمّن أشياء كثيرة كلّفه إياها ومسائل في الطبّ وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغا قد تأنّق [فيه] منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه، قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب وأطلته وحرّرته وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله ما أفضل هذا الرجل وأبلغه، قلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحا وضمّني إليه وقبّل بين عيني وقال: قد أذنت لك الآن فامض فكن كاتبا.
كان أبو إسحاق الصابىء واقفا بين يدي عضد الدولة وبين يديه كتب قد وردت عليه من ابن سمجور صاحب خراسان، وعلى رأسه غلام تركي حسن الوجه جميل الخلقة، وكان مائلا إليه، ورأيت الشمس إذا وجبت عليه حجبها عنه إلى أن استتمّ قراءة ما كان في يده، ثم التفت إليه فقال له: هل قلت شيئا يا إبراهيم؟ فقال:
وقفت لتحجبني عن الشمس ... نفس أعزّ عليّ من نفسي
ظلّت تظللني ومن عجب ... شمس تغيّبني عن الشمس
فسرّ بذلك وطوى الكتب، وجعله مجلسا للشرب، وألقى على الجواري الستائر يغنّونه به في ذلك اليوم، وهو الخامس من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
وكتب إلى بعض أصدقائه: «ولو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق علي فيه المرتكض والمجال، لأنّ الناس عندنا- ما خلا الأعيان الشواذّ الذين أنت بحمد الله أولهم- طائفتان: مجاملة ترى أنها قد وفّتك خيرها إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها إذا جنبتك كيدها، ومكاشفة تنزو إلى القبيح نزو الجنادب، أو تدبّ دبيب العقارب، فإن عوتبوا حسروا قناع الشقاق، وإن غولظوا تلثّموا بلثام