ليلا على بطن من خفاجة ليستصحب معنا منهم خفيرا، فأكرموا نزلنا، وجاء منهم في الليل صبيّ ما أظنه بلغ سبعا، وعليه آثار مرض قد نهكه فسلّم علينا، فقال له العلوي: ما بك يا فلان وسمّى الصبيّ، فقال مجيبا له: بي أنّ لي كذا وكذا- وعدّ مدة- أجهد وأمعد. يريد بأجهد أفعل من قولك: رجل مجهود ومن جهد الحمى، وأمعد أي يصيبني وجع في المعدة. يقال: معد فهو ممعود، كما يقال كبد فهو مكبود إذا أصاب كبده مرض، وكذا فئد فهو مفؤود، وباقي الأعضاء على ذاك. وكذا يقال في من أصيب هذا العضو منه برمّته. يقال في الصيد: أميدّى أم مرجول أي أصيبت يده أم رجله، فتعجبت من فصاحة الصبي. وكان معنا في الرفقة شيخ من أهل المشهد، فسمعته، وقد أعيا من السير يقول لعبد له: يا مقبل فرّكنى، فقلت لبعض من معنا:
ما معنى قوله: فركني؟ فقال: يريد غمّزني ليزول تعبي. فقلت: لا إله إلا الله، خالق ذلك الصبيّ وهذا الشيخ واحد، فكم بين اللسانين والسنّين.
وكان الشيخ أبو محمد يؤدب أولاد المستنجد: المستضيء وأخاه الأمير أبا القاسم. وكان يشتدّ عليهما في التعليم. فلما أفضى الأمر إلى المستضيء رضي ابن الخشاب أن يخلص منه رأسا برأس، وذلك أنه كان يظهر منه تفضيل أخيه عليه، فلم يذكّره بنفسه. قال العدل مسعود بن يحيى بن النادر: وكنت يوما بين يدي المستضيء فقال: كلّ من نعرفه قد ذكّرنا بنفسه، ووصل إليه برّنا إلا ابن الخشاب.
فما خبره؟ فاعتذرت عنه بعذر اقتضاه الحال. ثم خرجت فعرّفت ابن الخشاب ذلك، فكتب إليه هذين البيتين:
ورد الورى سلسال جودك فارتوى ... ووقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفّة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال ابن النادر: فأخذتها منه، وعرضتها على المستضيء، فأمر له بمائتي دينار، فقال لو زادنا لزدناه.
وما أنشد لنفسه:
أفديه من متعجّب متجنب ... قد ضنّ ضنا بالخيال الطارق
ما زال يمطلني بوعد كاذب ... حتى تكشّف عن صدود صادق