للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط [١] الصبابة أنظر

فقلت: وإلى غير الدار يا أمير المؤمنين، فتبسم ثم قال لوزيره: قد قابلني هذا الرجل بما لا أطيق أن أنظر إليه بعدها فانظر كم مبلغ جاريه وجرايته وأرزاقه وصلاته فاجمعها، وأقطعه بها إقطاعا بالأهواز، وأخرجه إليها ليبعد عن ناظري، ففعل.

قال: وأخرجت إليها وتبيّغ [٢] بي الدم، فالتمست حجاما كان في خدمتي، فقيل لم يخرج في الصحبة لعلّة لحقته، فقلت: التمسوا حجاما نظيفا حاذقا وتقدموا إليه بقلّة الكلام وترك الانبساط، فأتوني بشيخ حسن على غاية النظافة وطيب الريح، فجلس بين يديّ وأخذ الغلام المرآة، فلما أخذ في إصلاح وجهي قلت له: اترك في هذا الموضع واحذف في هذا الموضع وعدّل هذه الشعرات وسرّح هذا المكان، وأطلت الكلام وهو ساكت، فلما قعد للحجامة قلت له: اشرط في الجانب الأيمن اثنتي عشرة شرطة، وفي الجانب الأيسر أربع عشرة شرطة، فإن الدم في الجانب الأيسر أقلّ منه في الأيمن، لأن الكبد في الأيمن والحرارة هناك أوفر والدم أغزر، فإذا زدت في شرط الأيمن اعتدل خروج الدم من الجانبين، ففعل وهو مع ذلك ساكت، فعجبت من صمته وقلت للغلام: ادفع إليه دينارا، فدفعه إليه فردّه، فقلت: استقلّه ولعمري إن العيون إلى مثلي ممتدة والطمع مستحكم في نديم الخليفة وصاحب إقطاعه، أعطه دينارا آخر، ففعل فردّهما وأبى أن يأخذهما، فاغتظت وقلت: قبحك الله أنت حجّام سواد، وأكثر من يجلس بين يديك يدفع لك نصف درهم، وأنت تستقلّ ما دفعت اليك؟! فقال: وحقك ما رددتها استقلالا، ولكن نحن أهل صناعة واحدة، وأنت أحذق منّي وما كان الله ليراني وأنا آخذ من أهل صناعتي أجرة أبدا، فأخجلني وانصرف ولم يأخذ شيئا. فلما كان في العام القابل خرجت لمثل ما خرجت إليه في العام الماضي واحتجت إلى نقص الدم، فقلت لغلامي: اذهب فجئنا بذلك الحجام فقد عرف الخدمة، وقد انصرف تلك الدفعة ولم يأخذ شيئا، ولعله أيضا قد نسيها فيقع برّنا منه على حاجة منه إليه، قال: فلما جلس بين يديّ أصلح وجهي الإصلاح الذي كنت أوقفته عليه وحجمني أحسن حجامة فلما فرغ قلت: سبحان الله


[١] م: ماء.
[٢] تبيغ به الدم وتبوغ: هاج.

<<  <  ج: ص:  >  >>