قال أبو الفرج «١» : وكنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في السنة التي توفي فيها معز الدولة وولي بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه وسلاسة الخلق وكرم الطبع ممن يحبّ الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته «٢» حتى عرف صدرا من العلم وجمع خزانة من الكتب حسنة، فمضت لي معه سير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد من مكاتبات ومعاتبات وغير ذلك مما يطول شرحه؛ منها ما يشبه ما نحن فيه أنني جئته يوم جمعة غدوة فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته أن يركب إليها في كلّ يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكة على باب دار أبيه في موضع فسيح كان عمرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار ثم ندخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له لنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظرا له فأبطأ، وتصبّح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديق فقمت لأمضي ثم أعود إليه، فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظلّ بباب داره ... ويطول حبسي لانتظاره
وحياة طرفك واحوراره ... ومجال صدغك في مداره
لا حلت عمري عن هوا ... ك ولو صليت بحرّ ناره
وقمت، فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي لئلا يقف عليه «٣» من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه ومطالبا بمثل ذلك، مراقبة لأبيه، إلا أن ظرفه ووكيد محبته لي وميله إليّ لم يدعه حتى أجاب عنها بما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه، فخرج إليّ خادم لهم فقال: يقول لك لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات فانه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات