عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة والعقود الموثقة، ودبّرا أمر الجيش ووعدا الأولياء وردّا النافر وركبا الخطر الحاضر وعانقا الخطب العاقر، وباشر كلّ ذلك أبو الفتح خاصة بجدّ من نفسه وصريمة من رأيه وجودة فكره وصحة نيته وتوفيق ربه.
فلما ورد مؤيد الدولة الريّ من أصبهان وصادف الأمر متسقا ولحق كلّ فتق مرتتقا بما تقدّم من الحزم فيه ونفذ من الرأي الصائب عنده، أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح: بها نظمت لك الملك وحفظت لك الدولة وصنت الحريم، فان خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها فاليد الطولى لك، وكان ابن عباد قد ورد وحطبه رطب وتنوره بارد وأمره «١» غير نافذ، هذا في الظاهر، فأما في الباطن فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحسّ بذلك ابن العميد. فألّب الأولياء على ابن عباد حتى كثر الشغب وعظم الخطب وهمّ بقتله وقال للأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة- وقد انتكث حبلها وقويت أطماع المفسدين فيها- أن أسام الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل وغمزات الهوان، فقال له في الجواب: كلامك مسموع ورضاك متبوع، فما الذي يبرّد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى اصفهان موفورا، فو الله لو طالبته منصفا برفع الحساب لما نظر فيه ليعرقنّ جبينه، ولئن أحسّ الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وأفضالي بكلامه في أمري وسعيه في فساد حالي ليكوننّ هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف ومن المزن إذا نطف، فقال له: لا مخالف لرأيك والنظر لك والزمام بيدك. وتلطف ابن عباد في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلّم منك إليك، وأتحمّل بك عليك، وهذا الاستيحاش سهل الزوال إذا تألفت الشارد من حلمك وعطفت على الشائع من كرمك، ولّني ديوان الإنشاء واستخدمني فيه ورتبني بين يديك وأحضرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك فاني صنيعة والدك، واتخذني بهذا صنيعة لك، وليس يجمل أن تكرّ على ما بنى ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه، ومتى أجبتني إلى هذا وآمنتني فإني أكون خادمك لحضرتك وكاتبا يطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره، وفي هذا إطفاء النائرة التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي عليّ، فقال في الجواب: