واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضا أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لا بدّ وأن يمنّ بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد، وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغا يكون تفسيرا لتلك الرؤيا إلا إن منّ الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء لأن نعم الله عليّ سابغة وأياديه في حقي شائعة.
قلت: ولما مات والده «١» بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، ولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان عشرون سنة، هذا وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ إلا أنه رؤي أهلا لذلك دون غيره، وتصدّر وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم وأعجب الناس. وصنف مع هذا السنّ كتبا منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر وقدّمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحثّ على السماح، صنفه للملك الأشرف، وكان قد سيّر من حرّان يطلبه، فانه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه. كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع، وهو عشرة كراريس. كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه وما جاء فيه من الحديث والحكم وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب.
وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلىء في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذوا ومثالا، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهة واحدة بخطّ ابن البواب بأربعين درهما ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حيدر الكتبي، فذهب بها وادّعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهما زيادة على الذي بخط ابن البواب بعشرين درهما، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على انها بخطه دينارا مصريا ولم يطب