يكرعه على المبادرة ويعبه ويتجرعه ولا يكاد يسيغه ليقلّ مكثه في فيه ويسرع على اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفي كليته، ويرى أن يجعل عاقبة الشراب فضلة في قدحه، ويشاحّ الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شربه ويذهب بساعته ويمنع من تهوعه كما يفعل بطبخ الغاريقون عند شربه وحبّ الاسطيخمول.
وكان الجاحظ يقول: إن تهيأ لك في الشاعر أن تبره وترضيه وإلا فاقتله.
وقال أبو العيناء أنشدني الجاحظ لنفسه:
يطيب العيش أن تلقى حليما ... غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كلّ ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب
وأنشد المبرد للجاحظ:
إن حال لون الرأس عن لونه ... ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة ... فما الذي يحتاله الأصلع
وحدث أبو العيناء قال، قال الجاحظ: كان الأصمعي منانيا، فقال له العباس ابن رستم: لا والله ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده، وهي مخصوفة بحديد، ويقول: نعم قناع القدريّ، فعلمت أنه يعنيك فقمت.
وحدث يحيى بن علي بن المنجم قال «١» ، قلت للجاحظ: مثلك في علمك ومقدارك في الأدب يقول في «كتاب البيان والتبيين» ويكره للجارية أن تشبه بالرجال في فصاحتها، ألا ترى إلى قول مالك بن أسماء الفزاري «٢» :
وحديث ألذّه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
فتراه من لحن الاعراب، وإنما وصفها بالظّرف والفطنة، وإنما تلحن أي تورّي